لوحات تستمدّ نورها وعتمتها من عالمي المسرح والفوتوغرافيا

بشخصياته العملاقة التي تهيمن على اللوحة، بل هي أساس اللوحة، يستعرض الفنان التونسي أحمد الزلفاني بين الفينة والأخرى على صفحته الفيسبوكية بعض لوحاته أو منجزه الجديد، القوارير. لونه الفني المخصوص تأتي فيه الشخصيات أو الشخص الواحد أو الوجوه، رجالا ونساء وأطفالا أحيانا، بملامح مُتشابهة، لكنّها غامضة تُراوح بين الضوء والعتمة، بين الوضوح والالتباس، بين الأسود والأبيض، لتُسائل الحاضر التونسي المُلتبس: إلى أين نحن ماضون؟
تونس - الشخص عند الفنان التشكيلي والفوتوغرافي والمسرحي التونسي أحمد الزلفاني هو صانع المساحة، بل هو بطل اللوحة أساسا، إن كانت صغيرة أو في شكل جدارية عملاقة. وما تقنيتاه التقليل والتضخيم إلاّ مُتمّمان لتلك البطولة الأحادية لشخصه المُنتقى، وإن تحوّل في أعماله الأخيرة، القوارير التي ما انفكّ يستعرضها على صفحته الفيسبوكية، إلى جسد مُخاتل وممُتد على الامتداد العمودي للقارورة الحامل الجديد والحمّال الفريد لمعاني ورموز شخوصه السكرانة.
شخصيات ثملة وما هي كذلك تماما، رسمها الفنان على محمل زجاجي لزج أملس يُنذر رمزيا بإمكانية تهاويها إلى القاع، إن لم يتم تثبيتها فعليا بلاصق يحميها من التشتتّ شكلا ولونا، بل ومعنى أصلا؛ فالشخصيات المرسومة على السطح الناعم زاوجت بين الذكر والأنثى، بعيدا عن إكراهات الجندر في ثقافتنا العربية الإسلامية، التي تُتيح للرجل ما لا تُبيحه للمرأة من ملذات وشغف العيش، وكأنه يقول لأعداء الحياة بالتصريح قبل التلميح “ارفع كأسك نخب الجمال.. فهو الأبقى”.
كيان واحد
تجربة جديدة وفريدة يعلنها “زالف” كما يحلو للمقرّبين منه تسميته، تشي باحتفائه الدائم بالجمال أيا كان حامله، قماشة لوحة، أو قارورة خمر، ولم لا من خلال زجاجة عطر في قادم التجارب، فالفنان الذي كان ولا يزال دراماتورجيا مفكّكا ومروّضا للنص المسرحي، وسابرا لأغواره، ومدرّسا للصورة الفوتوغرافية بالمعاهد الأكاديمية المختصّة، يعي جيّدا أن الجمال حمّال لمعانيه قبل أدواته وخامته، فالجمال ثابت وأدواته متغيّرة.
وفي ذلك تسأل “العرب” أحمد الزلفاني الفوتوغرافي وأحمد الزلفاني الرسّام وأحمد الزلفاني المسرحي أين يكون التواصل وأين يكون التقاطع بين هذه الفنون؟ أم أنها كلها موحّدة؟
فيُجيب باقتضاب “الرسم والفوتوغرافيا والمسرح أعتبرها جميعا أدوات مختلفة أستعملها لإخراج اللوحة، والكلمة هنا تتحمّل البعد المسرحي تحديدا، وعرض ذاك العمل المزمع إنجازه مهما كانت أدواته سواء لوحة أو عدسة كاميرا أو خشبة مسرح ليشارك الآخر فيه ويثريه من عنده، فالأدوات تختلف لكن الكيان واحد والهدف واحد”.
فالفوتوغرافي والرسّام لم يفترقا يوما عند الزلفاني، يعيشان ويتهاديان في رحاب بيته/ مرسمه جنبا إلى جنب دون تفضيل فن على آخر، لتأتي أعماله مزجا فطريا لعالمين متناقضين، أو هكذا يصنّفهما النقّاد، لكن “زالف” يجمعهما من خلال عزفه المنفرد على لعبة الظلال المستمدّة من عالم المسرح، تحديدا مسرح خيال الظل، أليس المسرح أب الفنون والجامع لها؟
والزلفاني شارك في الكتابة الدراماتورجية للعديد من المسرحيات التونسية والعالمية على غرار “الطبة”، إخراج الراحلة رجاء بن عمار، و“شاخ مات”، إخراج فتحي بن عزيزة وفتحي العكاري، و“باب العرش” إخراج يحي يحي، كما شارك في إخراج مسرحية “فاجعة في باريس” لدجيجي دلاليو وغيرها الكثير. راكم تجربته الإبداعية في الفنون الثلاثة، مسرحا ورسما وفوتوغرافيا، لأكثر من ثلاثة عقود من الفعل الثقافي، مستندا في كل هذا على ثنائية الضوء والظلمة التي يقول عنها “النور والعتمة، متأتيان أساسا من بصمة الفوتوغرافيا، استحضرهما في الرسم كأداة للتعبير من ضمن الأدوات الأخرى. في الحقيقة لست أنا الذي استحضرهما وإنما يأتيان كحاجة ملحة؛ كـ”تنهيدة” (زفرة) أو ضحكة صادقة تعبيرا عن حال، ربما هو حال تونس الضبابي الذي بتنا نعيش فيه”.
وهذا الحال الضبابي يحضر بقوة في معرض الزلفاني الأخير “نحن الآخرون” والذي احتضنه فضاء “كونسبت ستور” برواق دار الفنون في مدينة الثقافة بتونس العاصمة في أبريل الماضي، حيث تحضر شخوصه بوجوهها الطولية وأعينها المنطفئة وأطرافها المرتجفة ورؤوسها الكبيرة الملأى بأسئلة حارقة، والباحثة عن إجابات قد تأتي، والأرجح أنها لن تأتي.
وهو ما يؤكّده “زالف” بنفسه، قائلا “ليست لديّ قصديّة من هذا الامتداد الطولي لشخصياتي في الأفق سوى محاولة إثارة إحساس ما لدى المتلقّي، هو نوع من الإثراء والكشف وتسليط الضوء ورفع ستار على مرحلة تشكيلية سبقتها مراحل، وهي نتاج تواصل للمراحل السابقة ومحطة قبل المراحل اللاحقة.. والرحلة واحدة في النهاية”.
غيبوبة واعية
تبدو شخصيات الزلفاني في امتدادها الطولي أشبه بمنحوتات جياكوميتي الممتدة إلى الأعلى، وكأنها تُعانق السحاب لتهرب من أدران الواقع الأرضيّ لتسرد دهشتها الجامحة إلى عالم أكثر ألقا، وأعمق أفقا، معلنة تيهها المحتفي بالسموّ والرفعة والعظمة.
وعن ذلك تسأله “العرب”، “إن كان ألبرتو جياكوميتي هو نحات الامتداد، فهل يمكن أن نقول إن أحمد الزلفاني هو رسام الامتداد أيضا؟”، فيُجيب بمنطق الفنان الساعي للتجريب والتجديد في أتون اللون والشكل دون ادعاء ومُكابرة “أثناء الرحلة تغيب عن ذهني أشياء كثيرة من هذا العالم، فأنسى وأهرب إلى عالم لا جياكوميتي فيه ولا غيره، عالمي صغير أدخله في غيبوبة واعية”.
ويردف “بالنسبة إلى جياكوميتي أرى شخوصه ممتدة، لكنه يضع لها حدا بعد الامتداد، إلاّ أن شخوصي لا تنتهي في اللوحة، قد يضع لها المُشاهد حدا وقد لا يضع”.
وفي النهاية، تبدو لوحات الزلفاني وحتى قواريره الأثيرة، إن اتّفق معنا أو لم يتّفق، بامتدادها الطولي للشخوص والمحامل على حد السواء، تعبيرة تشكيلية فريدة عن رغبة مبطنة، أو معلنة، في الهروب من الأرض والتحرّر من كل القيود لمعانقة فضاء مختلف وممتلئ بجمال ونقاء الألوان وتدرّجاتها.
فالأسود والأبيض عنده قرار، بحث من خلاله عن نقطة بيضاء، أساسها الأمل، وقوس قزح ألوانه اختيار، رسّخ عبره هروب شخصياته المرحة إلى عالمه السحريّ/ السريّ الذي لا يُتقنه سوى فنّان متعدّد الاختصاصات والمشارب الفنية اسمه أحمد الزلفاني.
فنان كتب النص المسرحي فأجاده، والتقط اللحظات الهاربة من الزمن والناس بعدسته فوثّقها وأرّخها، ورسم شخوصه الإشكالية والمرحة في آن واحد، فمنحها شفافية تعبيريّة أثارت الفضول والإعجاب أينما ارتحل بها عبر معارضه الخاصة في تونس وفرنسا وإيطاليا وتركيا، وأخرى جماعية في النمسا وألمانيا وبلجيكا واليابان والولايات المتحدة. وهو مع ذلك، كما يُعلن لـ“العرب”، لا يزال متمسّكا بقارب التجريب والتجديد الذي يرسو به مع إشراقة كل يوم جديد في مرفأ مختلف ضمن رحلته الاستكشافية لعوالم الفن المديدة وأسراره العديدة.