أيام قرطاج السينمائية تُعيد لتونس عافيتها الثقافية

فيلم "لينغي.. الروابط المقدسة" يدعو المرأة التشادية للتحرر من سطوة الذكورة
الاثنين 2021/11/01
"لينغي.. الروابط المقدسة" يطرح مشكلة الأم العزباء في مجتمع أبوي

بعد دورة استثنائية غابت عنها المسابقات العام الماضي بسبب تفشي وباء كورونا في تونس، عادت أيام قرطاج السينمائية لجمهورها في دورتها الثانية والثلاثين التي انطلقت فعالياتها السبت، بمختلف أقسامها وأركانها وفقراتها المعهودة إضافة إلى مسابقات أخرى مُستحدثة، وذلك بمشاركة خمس وأربعين دولة موزّعة بين ثمانية وعشرين بلدا أفريقيا وسبعة عشر بلدا عربيا.

تونس - تحت شعار “نحلم.. لنحيا” انطلقت مساء السبت بمدينة الثقافة بتونس العاصمة فعاليات الدورة الثانية والثلاثين من مهرجان أيام قرطاج السينمائية، والتي تستمر حتى السادس من نوفمبر الجاري، بمرور نجوم السينما ومنتجيها ومخرجيها من العالمين الأفريقي والعربي على السجادة الحمراء، بعد غيابهم شبه التام العام الماضي بسبب تفشي وباء كورونا الذي ضرب العالم.

وازدانت السجادة الحمراء في دورتها الحضورية هذه السنة بمرور النجمة المصرية نيللي كريم، والمنتج اللبناني صادق أنور الصبّاح، والجزائريين نبيل عسلي وسارة لعلامة، والتونسيات ريم البنا وإباء حملي ومريم الصياح وشاكرة الرماح وأخريات، إلى جانب كل من الممثل التونسي فتحي الهداوي ومواطنه كمال التواتي الذي يعود للمُشاركة في مسابقات المهرجان بعد طول غياب، وذلك عبر الفيلم الروائي القصير “فريدا” للمخرج محمد بوحجر.

افتتاح مرح ومؤثر

رضا الباهي: أردنا من الدورة الجديدة أن يكون صوت السينما أعلى من كل صوت

أعلنت وزيرة الشؤون الثقافية حياة قطاط القرمازي افتتاح الدورة الثانية والثلاثين من المهرجان بكلمة قالت فيها “ما أروع أن يجمعنا مهرجان قرطاج السينمائي في احتفال تستعيد به الحياة نكهتها مع تراجع وباء كورونا بتونس والعالم”.

وأضافت “يبقى المهرجان حدثا ثقافيا وطنيا ودوليا عريقا مدافعا عن السينما الجادة والملتزمة، ومحتفيا في كل عام بمخرجي الأفلام وكتاب النصوص ومبدعي الصورة، جامعا النقاد والإعلاميين والجمهور التونسي الشغوف بالسينما، فخر المهرجان”.

وانطلق حفل افتتاح المهرجان الذي قدّمه الممثل والمخرج التونسي نجيب بلقاضي بتكريم للفنانة المصرية نيللي كريم، والمنتج اللبناني صادق أنور الصباح، والناقد السينمائي السنغالي بابا ديوب، والناقد السينمائي التونسي خميس الخياطي الذي صفّق له الجمهور طويلا عند صعوده لتسلّم الجائزة ما يشي باعتراف الجماهير قبل أهل القطاع بمكانة النقد السينمائي في الذائقة التونسية، وتمّ منحهم التانيت الذهبي اعترافا بجهودهم المبذولة في السينما.

كما تمّ تكريم الممثلة شاكرة رماح، والممثل بحري الرحالي، والمخرج نصرالدين السهيلي، و”الماشينيست” (الميكانيكي السينمائي) حسن التبّي، والمختصة في القيافة والتجميل السينمائي هاجر بوحوّالة التي منحها درع التكريم ابنها سالم دلدول.

وشهد الحفل أيضا تكريما للمخرجة التونسية الراحلة مفيدة التلاتلي صاحبة فيلم “صمت القصور” المتوّج بالتانيت الذهبي للأيام في العام 1994، والتي افتقدتها الساحة السينمائية التونسية والعربية في السابع من فبراير 2021.

التشادي محمد صالح هارون يسعى عبر أفلامه لتحقيق نهضة مجتمعية تقطع مع المتكلس

وفي كلمة مقتضبة ومؤثرة، قالت النجمة التونسية - العربية هند صبري التي عرفت ظهورها الأول في السينما مع الراحلة “موفا”، كما تودّ تسميتها، “مفيدة التلاتلي موجودة في وجدان كل التونسيين وكل من اصطف أمام قاعات السينما لمشاهدة فيلم ‘صمت القصور’، سعيدا باستقلال تونس وتحرّره من المستعمر الفرنسي”.

وتابعت والدمع يُغالبها “في يوليو 1993 دخلت بيت موفا، فعانقتني وقبلتني، ومنحتني أولى أدواري البطولية عبر شخصية ‘علياء’ في ‘صمت القصور’، فغيّرت حياتي ومساري المهني، وهي التي علمتني أن السينما أولا وقبل كل شيء حب ومشاركة، اشتقت إليك موفا واشتاق إليك الكثيرون.. لا بد أنك الآن في مكان أجمل تُمارسين السينما التي تُحبّين”.

وفي كلمة ألقاها خلال حفل الافتتاح، قال رضا الباهي المدير العام للمهرجان إن هذه الدورة “حملت شعار نحلم.. لنحيا، لذلك يجب المحافظة على الموجات الإيجابية التي شعارها الحلم، ولا يجب الوقوف على مشاكل القطاع فقط”، في إشارة إلى تقلّص قاعات السينما بالبلد وأزمة توزيع الأفلام فيه.

وأضاف “أردنا في هذه الدورة أن يكون صوت السينما أعلى من كل صوت، فاخترنا أفضل الأفلام وأرقاها في تونس والمنطقة العربية وأفريقيا، كما لم نحرم الجمهور من الأفلام الأجنبية المختارة بعناية”.

قصة تشادية موجعة

مفيدة التلاتلي خالدة في ذاكرة هند صبري
مفيدة التلاتلي خالدة في ذاكرة هند صبري

شهد حفل الافتتاح هذا العام كتابة سينوغرافية متميّزة، وضع لمساتها بكثير من الطرافة والتجديد المخرج والممثل ومقدّم الحفل نجيب بلقاضي، حيث كان المرور سلسلا بين الفقرات والتكريمات من خلال بعض المشاهد التمثيلية المُباشرة على خشبة المسرح، تفاعل معها جمهور قاعة الأوبرا بالضحك والتصفيق.

وحُظيت السينما التشادية بشرف افتتاح الدورة الجديدة للأيام عبر فيلم “لينغي.. الروابط المقدسة” لمحمد صالح هارون الذي نافس ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي في دورته الرابعة والسبعين، وهو فيلم من سبع وثمانين دقيقة، يسرد قصة الأم العزباء أمينة المسلمة التي تعيش مع ابنتها ماريا البالغة من العمر خمسة عشر عاما في إحدى الضواحي الفقيرة للعاصمة التشادية نجامينا.

تفاجئ أمينة بحمل ابنتها ماريا التي اغتصبها أحد الرجال المسنين، وعزم الأخيرة على الإجهاض في بلد يُدان فيه الإجهاض بل ويعدّ جريمة مُدانة بالقانون، خمس سنوات سجنا، علاوة على التحريم الديني له، وإن كانت الفتاة مُغتصبة، لا ذنب لها في “المحظور” الذي وقعت فيه.

حياة قطاط القرمازي: ما أروع أن يجمعنا مهرجان قرطاج السينمائي في احتفال تستعيد به الحياة نكهتها مع تراجع وباء كورونا بتونس والعالم

من هنا تقرّر الأم أخذ حق ابنتها بيدها، كي لا يتكرّر ما عاشته من ظلم وإقصاء في حياتها، وهي التي تخلى عنها حبيبها بعد علمه بحملها، لتجد نفسها تُعيل ابنتها وحيدة وسط عالم تحكمه العادات القديمة، ترى المرأة مذنبة في حبها وحملها خارج مؤسسة الزواج.

والفيلم الذي قام ببطولته كل من ريهان خليل آليو وأشواق آباكار ويوسف جاورو، يُدين بشكل مباشر النفاق الاجتماعي في التشاد، حيث يدّعي المؤمنون أن الجميع إخوة ولهم الحق في حياة كريمة، لكنهم يقولون ما لا يفعلون. فكل شيء في هذا البلد الأفريقي المسلم يعمل على إبقاء النساء أسيرات الجهل والتخلف، حيث أن مصائرهنّ معلقة برغبات الرجل/ الذكر، فهو من يمنحهنّ صكوك التوبة والغفران، وهو من يُدينهنّ ويُجرّمهنّ، حتى وإن كان الفاعل من بني جنسه، والمرأة في كل هذا هي المُذنبة بجمالها ودلالها وإغوائها للرجل، وإن لم تفعل، فوجب ختانها كي تخفت الرغبة عندها كما تزعم العجائز.

و”لينغي.. الروابط المقدسة” كتابة ذكية وهادئة بالكاميرا تسرد معضلات مجتمعية مُعاصرة، ركّز فيها هارون على ملامح الوجوه وانفعالاتهم دون الكثير من الغوغاء الحوارية، مُشركا المُتلقي في أزمات بطلتيه الأم أمينة وابنتها ماريا برؤى جمالية مُربكة تدعو إلى المزيد من التفكير والتمحيص في القناعات البائدة.

ومحمد صالح هارون، مولود عام 1961 في أبيشي، وهو مخرج فرنسي - تشادي يعيش في فرنسا منذ العام 1982، وكان أيضا وزير تنمية السياحة والثقافة والحرف في تشاد من 2017 إلى 2018، قبل أن يستقيل من منصبه لإيمانه بأن الفن هو سلاحه الوحيد للتغيير في بلد يعيش أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية خانقة تشدّه بقوة إلى الوراء.

وللمخرج العديد من الأفلام التي تناولت قضايا اجتماعية حارقة في بلد أفريقي من جنوب الصحراء يُكابد لتحقيق نهضة مجتمعيّة وثقافية تقطع مع السائد والمتكلّس، لعلّ أبرزها “الرجل الذي يصرخ” الذي حاز من خلاله على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي في العام 2010، إلى جانب “غريغريس” في العام 2013، والشريط الوثائقي “حسين حبري، تراجيديا تشادية” في العام 2016.

حضور تونسي قياسي

المهرجان يمنح التانيت الذهبي للممثلة المصرية نيللي كريم اعترافا بجهودها المبذولة في السينما
المهرجان يمنح التانيت الذهبي للممثلة المصرية نيللي كريم اعترافا بجهودها المبذولة في السينما

تلقّت إدارة مهرجان قرطاج هذا العام ترشيحات لأفلام عربية وأفريقية بين قصير وطويل ووثائقي في المسابقة الرسمية بلغت سبعمئة وخمسين فيلما، ممّا عدّ رقما قياسيا غير مسبوق في تاريخ الأيام، وتمّ انتقاء ستة وخمسين فيلما منها اثنا عشر فيلما روائيا طويلا وثلاثة عشر فيلما وثائقيا طويلا وإحدى وعشرون فيلما قصيرا، بالإضافة إلى عشرة أفلام في مسابقة السينما الواعدة.

وتحضر تونس برقم قياسي من الأفلام التسجيلية والروائية، ضمن المسابقات وخارجها، فاق الثلاثين فيلما بما يكشف عن ولادة جيل جديد من الشباب السينمائي الواعد سيعلنون بالتراكم عن حضورهم وبقوة في المستقبل القريب.

وتتنافس السينما التونسية على جوائز الدورة الحالية بأربعة عشر فيلما في المسابقات الرسمية، وترشّحت ثلاثة أفلام لخوض غمار مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، وهي “فرططو الذهب” لعبدالحميد بوشناق و”مجنون فرح” لليلى بوزيد و”عصيان” للجيلاني السعدي.

وفي مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، وقع الاختيار أيضا ثلاثة أفلام تونسية، وهي “حلال سينما” لأمين بوخريص و”أبي فيم أفنيت شبابك؟” لأكرم عدواني و”مقرونة عربي” لريم التميمي.

أما مسابقة الأفلام الروائية القصيرة، فتشهد بدورها مشاركة ثلاثة أفلام تونسية، وهي “في بلاد العم سالم” لسليم بلهيبة و”فريدا” لمحمد بوحجر و”سواد عينيك” لطارق الصردي. بينما يُشارك الفيلمان “سياح خارج الموسم” لماهر حسناوي و”يا عمّ الشيفور” لبية مظفر في مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة.

كما تُشارك تونس في مسابقة السينما الواعدة بثلاثة أفلام، وهي “فالصو” لأمين غزواني و”أمل” لآمال كراي و”تفاحة الحب” لدنيا غضاب.

وتحتكم عروض مسابقة الأفلام الروائية إلى لجنة متكوّنة من ستة أعضاء يرأسها السينمائي الإيطالي إينزو بورسلي، أما مسابقة الأفلام الوثائقية فهي متألفة أيضا من ستة أعضاء ترأسهم السينمائية كلوي عائشة بورو من بوركينا فاسو.

إباء حملي ومريم الصياح.. أناقة محتشمة
إباء حملي ومريم الصياح.. أناقة محتشمة

وتضمّ لجنة تحكيم العمل الأول “جائزة الطاهر شريعة” كلا من رمسيس محفوظ، والممثلة المصرية بسمة وسيكو تراوري، فيما تضمّ لجنة تحكيم “قرطاج السينما الواعدة” كلا من لينا شعبان، وفاتو كيني سيني ونيكول كاماتو، وغيرها من لجان المسابقات الإحدى عشر.

وتمّ هذا العام إحداث مسابقة حملت اسم المناضلة الحقوقية التونسية الراحلة لينا بن مهني (1983 - 2020)، وتتكوّن لجنة تحكيمها من الفرنسية سارة بارتو والحقوقية التونسية بشرى بلحاج حميدة وهشام بن فرج، وتتعلّق هذه الجائزة بأفلام حقوق الإنسان.

كما تمّ استحداث “أيام قرطاج السينمائية والفرنكوفونية”، حيث تُقام ضمن فعاليات الأيام حلقة نقاش بعنوان “إشعاع الأفلام وعرضها في المنطقة الفرنكوفونية: التحديات والآفاق”. كما سيتمّ عرض أفلام حديثة باللغة الفرنسية تمثّل التنوّع الثقافي للعالم الفرنكوفوني.

تونس تحضر في المهرجان برقم قياسي من الأفلام التسجيلية والروائية، ما يشي بولادة جيل جديد من السينمائيين الشباب

وحافظت الدورة الحالية على أقسامها الثابتة، وهي “نظرة على سينما العالم” و”نظرة على السينما التونسية” و”الماستر كلاس” التي تُعنى بتقديم ورشات تكوينية في السينما.

وتطرُق أيام قرطاج السينمائية هذا العام باب الثكنات العسكرية، حيث سيتمّ تنظيم عروض لفائدة عناصر الجيش التونسي، كما تُحافظ الأيام على عروضها في السجون ومراكز الإصلاح (الأحداث دون سن الثمانية عشرة) وفي العديد من الجهات دعما للامركزية الثقافية.

فيما تفتح للمرّة الأولى نافذة على السينما الليبية في قسم خاص بعنوان “جارة الوادي” يعرض مجموعة من الأفلام حول ما يجري في ليبيا، كما سيتمّ تنظيم حلقة نقاش حول “السينما الليبية: الواقع والآفاق”، بمشاركة ثلّة من السينمائيين الليبيين.

كذلك تهتمّ الدورة الثانية والثلاثون من المهرجان بالسينما البلجيكية عبر قسم “نظرة على السينما البلجيكية”، وهي مساحة للاطلاع على التجربة السينمائية البلجيكية التي ما انفكّت تتطوّر بشكل لافت خلال العشرية الأخيرة، إذ سيتمّ عرض مجموعة من الأفلام التي قدّمت قراءة مغايرة للواقع في هذا البلد الأوروبي المُجاور لمهد السينما، فرنسا.

هكذا أشاعت أيام قرطاج السينمائية السبت حيوية على شارع الحبيب بورقيبة القلب النابض للعاصمة تونس وبالمثل للطريق المؤدّي إلى مدينة الثقافة الشاذلي القليبي، رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمرّ بها البلاد، حيث أعاد المهرجان البهجة إلى الوجوه المكفهرّة التي ستتنفّس على امتداد أسبوع كامل السينما وتعيش الحياة عبر رؤى المخرجين وإبداعات الممثلين.. فالكلمة الآن للشاشة الكبيرة.

الجزائريان نبيل عسلي وسارة لعلامة أمام عدسات المصورين

 

15