عبداللطيف بن عمار يكشف الوجه الآخر لمعركة بنزرت

فيلم "النخيل الجريح" يعيد كتابة تاريخ تونس في ذكرى عيد الجلاء.
الاثنين 2021/10/18
نخل جريح خرّبه رصاص المحتل

يقول المؤرخ الفرنسي مارك فيرو “كل فيلم عن التاريخ.. يبقى في التاريخ”، وفيلم “النخيل الجريح” لعبداللطيف بن عمار دخل التاريخ حقيقة، بإعادته رواية التاريخ بعيدا عن الخطاب الرسمي، مستعرضا قراءة جديدة للتاريخ التونسي وفق رؤية سينمائية مخصوصة لمنجزها، قد نتّفق معها وقد نختلف، لكنها تظل محفّزة على البحث في الإشكاليات والجدليات بإحساس فني رفيع.

تونس- تزامنا مع الذكرى الثامنة والخمسين لعيد الجلاء بتونس (الخامس عشر من أكتوبر 1963)، عرضت قناة “الوطنية الأولى” (عمومية)، مساء الجمعة فيلم “النخيل الجريح” للمخرج التونسي عبداللطيف بن عمار (إنتاج 2010)، الذي يسلّط الضوء على الأحداث التي جرت في مدينة بنزرت (شمال تونس) عام 1961 وأدّت إلى مقتل الآلاف من التونسيين.

والفيلم التونسي – الجزائري المشترك الذي يقوم ببطولته من تونس كل من ناجي ناجح وليلى واز وجوهر الباسطي ومن الجزائر حسن كشاش وريم تاكوشت، تدور أحداثه في بداية التسعينات بمدينة بنزرت التونسية.

"النخيل الجريح" يسلّط الضوء على معركة بنزرت وما خلّفته من مآس إنسانية، وما شابها من تزييف للتاريخ

وفيه تلتقي شامة (ليلى واز)، خرّيجة الجامعة التونسية في اختصاص علم الاجتماع، بالكاتب المعروف الهاشمي عبّاس (ناجي ناجح) الذي يسلّمها جزءا من مخطوط كتابه الجديد الذي يسرد فيه ذكرياته عن معركة بنزرت (يوليو 1961) والتي يدّعي أنه شارك فيها وكان أحد أبطالها.

بين الدراما والتاريخ

من هناك تقوم شامة برقن المخطوط على الآلة الكاتبة بمقابل مادي، تمهيدا لنشره، وهي المعجبة بالكاتب وأسلوبه وطريقة طرحه لحادثة مأساوية مسكوت عنها في التاريخ الوطني الحديث راح ضحيتها الآلاف من التونسيين الأبرياء المؤمنين بالجلاء، أو بعبارة أدقّ جمّلها الخطاب الرسمي آنذاك لغايات سياسية، فتحقّق جلاء آخر جندي فرنسي من الأراضي التونسية فعليا في الخامس عشر من أكتوبر عام 1963، لكن دماء الآلاف من الأبرياء الذين راحوا ضحية حرب غير متكافئة ظلت معلّقة بين سماء الواجب الوطني وأرض الزيف الحاصل في كتابة التاريخ الذي يدوّنه في الغالب المنتصرون.

وفي هذا الخصوص يقول مخرج الفيلم عبداللطيف بن عمار وكاتبه “إن الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة كان قد اتفق مع الفرنسيين عقب إعلان استقلال تونس في العشرين من مارس 1956 أن تبقى بنزرت قاعدة عسكرية لهم، وهو الأمر الذي أغضب الشارع التونسي عصرئذ، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع مندّدين بالاتفاق ومطالبين بالتحرّر الكامل من الاستعمار، ممّا دفع ببورقيبة إلى الاستجابة لمطالب الشعب، معلنا النفير العام، داعيا المواطنين إلى مساندة الجيش التونسي الفتيّ حينها إلى خوض معركة الجلاء في يوليو 1961، حيث استمر إطلاق الرصاص من جانب المحتل الفرنسي على المواطنين يومين ونصف اليوم ليسقط الآلاف من الشهداء الذين دفن معظمهم في مقابر جماعية دون أن يسلّموا إلى أهاليهم”.

وهو ما أيّدته فيه الممثلة ليلى واز التي قالت في إحدى حواراتها الصحافية “تحوّلت احتفالية عيد الجلاء التي تُقام كل عام في الخامس عشر من أكتوبر في مدينة بنزرت إلى كرنفال لا يعجب البنزرتيين أنفسهم، في حين أن كل ما يظهر من الواقعة ‘مقبرة’ رمزية تضمّ أقل من خمس مئة شاهد قبر، بينما لا يوجد فيها رفات شهيد واحد”.

وإن تعدّدت الروايات والمصادر حول عدد الضحايا، بين من يقول إنه جاوز الثمانية آلاف شهيد ومن يقول إنه لم يتجاوز السبع مئة شهيد وألف وخمس مئة جريح في رواية أخرى، فالثابت أن المعركة غير المتكافئة بين الطرفين أسقطت المئات من التونسيين العزل، و”النخيل الجريح” يسائل كل هذه الروايات والأحداث عبر تتبّع خطى شامة في بحثها عن حقيقة مصرع أبيها على أرض المعركة، أي مدينة بنزرت.

عنوان الفيلم "النخيل الجريح" يبرز شاعرية المخرج/ المؤلف بن عمار

فالفتاة الشابة تشعر وهي ترقن مخطوط رواية الهاشمي عباس، برغبة جامحة في الغوص أكثر فأكثر في أحداث حرب بنزرت التي فقدت فيها والدها كمال بن محمود العامل النقابي البسيط بالسكك الحديدية، وهو واحد من ضمن الآلاف من المتطوّعين الذين استشهدوا في المعركة، والذين نسيهم المؤرخون وغفلت عنهم كتب التاريخ.

وفي الأثناء يعلم الكاتب أنّ والد شامة هو واحد من شهداء حرب بنزرت، فيزعم أنّه لن يكمل كتابه ويستغني عن خدماتها، إلاّ أن الشابة التي فقدت والدها وهي رضيعة، تزداد إصرارا على معرفة قصّة مقتل أبيها، فتلتقي عددا ممّن شاركوا في الحرب، لتنتهي إلى حقيقة أن الهاشمي عباس، كان أقرب الأصدقاء لوالدها الشهيد، بل كان الراحل متأثرا بحسه الوطني المزعوم، الأمر الذي جعله يضحّي بزوجته وابنته الوليدة من أجل المشاركة في حرب الجلاء.

والمواجهة الأخيرة بين شامة وعباس تقود إلى الكشف عن أن البطل المزعوم غادر المعركة مع أولى طلقة رصاص عاجزا عن الإيفاء بواجبه الوطني تجاه بلده، بل بواجبه الإنساني تجاه صديقه الذي استجار به وهو جريح كي يخفيه في بيته الحصين، لكنه تركه إلى مصيره المحتوم.

ليغدو عباس، وبعد ثلاثة عقود من الحادثة، ذاك الروائي الشهير الذي يكتب التاريخ وفق مزاجه الخاص وينسب إلى نفسه ما شاء من البطولات الواهية. أما الأبطال الحقيقيون الذين ماتوا من أجل خلاص بلادهم من المحتل فذهبت دماؤهم هباء منثورا على رصيف التاريخ المغلوط، وما أشبه الأمس باليوم، فالتاريخ يعيد نفسه بعد نحو خمسة عقود، أي مع ثورة الرابع عشر من يناير 2011، وكأن قدر تونس أن يذهب البسطاء ضحية سياسات الزعماء، ليكتب المنتصرون في كل مرة التاريخ وفق ما يزعمون.

المشهد الحدث

بقي أن نشير هنا إلى أنه ورغم ما احتواه الفيلم من إدانة صريحة لبعض المثقفين الذين يدّعون ما لا يفعلون، ليزجّوا بالآخرين البسطاء في أتون حرب خاسرة لغيرهم ورابحة لهم ولأفكارهم المكذوبة، فإن الروائي الطويل حفل بـ”مشهد حدث” ينتصر للمثقفين والفنانين ودورهم في بثّ السرور في الأنفس المكلومة.

دماء الآلاف من الأبرياء التونسيين ظلت معلّقة بين سماء الواجب الوطني وأرض الزيف الحاصل في كتابة التاريخ

وذلك حين جمع بن عمار في لقطة مرجعية مطوّلة بين كل من الشاعر الراحل محمد الصغير أولاد أحمد وهو يعزف على آلة الناي، والناقد الموسيقي خالد الطبربي وهو ماسك بآلة الدف، والتشكيلي نجا المهداوي وهو يقرع على الطبلة، وزميله حمادي بن سعد وهو يداعب أوتار الكونترباص، والمسرحي الأسعد بن عبدالله وهو يعزف على الأكورديون، والمخرج السينمائي النوري بوزيد وهو يداعب بقوسه أوتار الكمان، في جوق موسيقيّ متكامل يقوده الممثل الجزائري حسن كشاش لاعب البيانو، الذي وجد في تونس الملاذ الآمن وجدار الصدّ الأخير ضدّ العنف والتطرّف اللذين اجتاحا الجزائر في العشرية السوداء خلال تسعينات القرن الماضي، لتكون الموسيقى بلسما لجراح شامة الباحثة عن حيثيات موت أبيها الغامضة، وترياقا لنبيلة (ريم تاكوشت) زوجة الموسيقي نورالدين الفاريْن من أتون حرب أهلية تدور رحاها في الجزائر، فيرقصون على إيقاع موسيقى صاخبة مستقبلين عاما جديدا علّه يكون سعيدا على الجميع.

ويُبرز عنوان الفيلم “النخيل الجريح” شاعرية المخرج/ المؤلف بن عمار، فالنخل لا يموت إلاّ واقفا، و”الدماء” التي نزلت منه بفعل الطلق الناري العشوائي للمحتل في حربه ضد التونسيين، كما جاء على لسان شامة في حديثها مع حفيد عباس الطفل مراد، ترويها لتكون الولادة الجديدة من الجرح النازف ذاته، كما الثورات تولد دائما من رحم أوجاع الشعوب، وإن حرّفوها، وإن زيّفوها، ستظل الحقيقة شامخة كالنخل السامق.

و”النخيل الجريح” يعدّ خامس فيلم روائي لعبداللطيف بن عمار بعد “قصة غاية في البساطة” (1969) و”سجنان” (1974) و”عزيزة” (1980) و”نغم الناعورة” (2001).

15