الثقافة البصرية: قراءة تختلف بين المتفائل والمتشائم

الصور المنتشرة حولنا في كل مكان، في عالمنا الواقعي أو الافتراضي، وكذلك هوياتنا وصورنا التي تطلبها منا كل التطبيقات ليست مجرد أحداث عادية أو دورية وبديهية وإنما هي انعكاس واضح لمجتمعاتنا ولكيف يمكن أن تسير الحياة ومن المتحكم فيها وكيف يمكنه التحكم فيها وفينا مستقبلا. وهذا ما تبحث فيه الأكاديمية ألكسيس إل. بويلان التي تقول إننا نحتاج النظر دائما فيما يقدم إلينا من صور.
الثقافة البصرية هي المجال الذي يستكشف كيف تُشكّل الصور – من الفنون والإعلام إلى الرموز اليومية – فهمنا للعالم وعلاقاتنا الاجتماعية. ليست الصور مجرد انعكاسات للواقع، بل قوى ديناميكية تحمل دلالات ثقافية، سياسية، واجتماعية، تؤثر في الهوية، السلطة، والذاكرة. من لوحة فنية إلى إعلان تجاري أو صورة رقمية، تتفاعل الثقافة البصرية مع الزمن والمكان.
انطلاقا من هذه الرؤية يأتي كتاب “الثقافة البصرية” للباحثة والأكاديمية البارزة بجامعة كونيتيكت ألكسيس إل. بويلان، ويعد إطارا تحليليًا يستكشف كيف تُشكل الصور – من الفنون الجميلة إلى الإعلام والرموز اليومية مثل إشارات المرور أو صور المشاهير – تصوراتنا للعالم وتفاعلنا معه.
تطرح بويلان في كتابها الذي ترجمته أخيرا ياسمين العربي وصدر عن مؤسسة هنداوي، أسئلة جوهرية حول الثقافة البصرية، ويدعو الكتاب القراء إلى التفكير النقدي في كيفية “تسليح” الصور لخلق تأثير إيجابي أو تعزيز التغيير الاجتماعي. ويتميز بأسلوبه الذي يمزج بين التحليل الأكاديمي العميق والأمثلة المعاصرة، مما يجعله مدخلا جذابًا للاهتمام لفهم تعقيدات الثقافة البصرية في عالم مشبع بالصور.
وترى أن الصور المرئية تحيط بنا من كل اتجاه؛ بعضها ننشده، والغالبية مفروضة علينا. وتخلق كل هذه العناصر المرئية، سواء المضافة أو المحذوفة، بيئةً بصرية تتحوَّل فيها كل القِطَع الصغيرة التي نراها (الألوان، والحيوانات، والقمر، وناطحات السحاب، ولافتات التوقف، والنشرات السياسية، وكيم كارداشيان ويست) إلى عناصر: مفهومة، وطبيعية ومألوفة وواضحة، ومحدَّدة ويسهل الوصول إليها. كيف يحدث هذا؟ ومن ثَم كيف نعيش ونتحرك داخل بيئتنا البصرية؟ كيف نتعامل مع الأشياء الجديدة؟ وكيف ندمجها في قاموس الصور التي نعرفها بالفعل؟ ربما يرى المتفائلون الثقافة البصرية وسيلةً لتشكيل هُويَّات فردية وانتماء جماعي؛ طريقةً لتحقيق البهجة أو التوازن، والسلام والأمل. ربما يرَون المحيط البصري متجرًا كبيرًا متعدد الأقسام هم زبائنه، حيث يتمتعون بالحرية في اختيار العناصر التي تعكس ذواتهم وقِيَمهم على أفضل نحو. في هذا السيناريو، نحن دائمًا أصحاب القرار، ودائمًا المتحكِّمون، ودائمًا على دراية بالخيارات، وقادرون على إدارة بيئتنا واستجاباتنا لها. نحن وكلاءُ أحرار نتَّخذ القرارات. إننا، مجتمِعين، فريقٌ بصري تعاوني، نتبادل الصور فيما بيننا، ونرفض ونقبَل، وبذلك نكون القيِّمين على حياتنا. وربما يرى المتفائل أيضًا الثقافة البصرية فرصةً لغرس الأفكار الإيجابية والإبداع في العالم، والحدِّ من السلوكيات المعادية للمجتمع.
وتفتح الكاتبة نقاشات أخرى أكثر قتامةً حول الثقافة البصرية، وتشير إلى آثارها المحتمَلة الأكثر شؤمًا وعنفًا، “مثلًا، قد تسمع عن لوحاتٍ تُباع بمبالغ مالية طائلة، وتتساءل: لماذا أصبح من الصعب الآن أكثر من أي وقت مضى تقديرُ قِيمة الفن ومعناه؟ وإلى مَن هو موجَّه؟ والأكثر إزعاجًا ربما يكون تعرُّضنا لوابلٍ لا ينقطع من الصور الوحشية، والخوف من أن يعكس ذلك لامبالاة عامة في المجتمع نحو العنف والقسوة والنزعة السادية. ربما تشعر أيضًا بعدم الارتياح عندما تفكِّر في كاميرات المراقبة في الأماكن العامة والعديد من كاميرات الأمن التي تتعقَّبنا، فضلًا عن الطائرات المسيَّرة التي يمكِنها التجسُّس على أي شخص في أي مكان. كما يصعب ألَّا نخاف من برامج التعرُّف على الوجوه التي ستجعل كلَّ فردٍ منا قابلًا للتعقُّب الفوري والمتواصل، أو من التزييف العميق للفيديوهات والصور التي تُنشأ بالذكاء الاصطناعي. قد تبدو المتاحف التي يتعرَّض فيها الأطفال السُّود لمضايقاتٍ عنصرية من زائرين آخرين، ويلاحقهم فيها حرَّاس الأمن، على النقيض تمامًا من الغرض الذي خُصِّصت له هذه المساحات المؤسسية.
وقد جعل هاشتاغ “أنا أيضًا”، وهي حملة لفضح المتحرِّشين، استهلاك بعض الأفلام، والبرامج التليفزيونية، والمنتَجات المرئية الأخرى أمرًا مرفوضًا أو مثيرًا للشعور بالذنب أو عدم الارتياح. فالصور والأعمال الفنية التي وعدَت في السابق بمتعة غامرة، أو مَهرَب، أو رؤى عميقة، حقَّقت ذلك بالفعل أيضًا؛ أصبحت تثير الآن الحزن أو ردود الفعل الدفاعية. وهل أي شيء نراه حقيقيًّا؟ التلاعب بالصور الفوتوغرافية وكل ما هو رقمي ليس أمرًا جديدًا، لكن تطور التقنية ثلاثية الأبعاد يَعِد بجعل معظم الأشياء قابلةً للنسخ إلى ما لا نهاية، وهو ما يزيد من غموض الحدود بين الأصل ونُسَخه، وما هو حقيقي وما هو مزيف. على الأرجح، ستصبح وجوهنا أو أجسادنا مَشاعًا في المستقبل، وقد أعطى العديد منا في الواقع حق استخدام وجوههم بالفعل (برضًا أو بغير علم) لشركات مثل غوغل وفيسبوك وتطبيقات المواعَدة والعلاقات العابرة وللحكومات.
وتوضح “من وجهة النظر المتشائمة، يمكِن النظر إلى الثقافة البصرية على أنها حديقة تعجُّ بالكوارث واليأس. كيف يمكِننا تجنُّب الشعور بالإرهاق والانجراف تحت وطأة كل هذا؟ كيف نمتنع عن الذعر والخوف من التكنولوجيا والتغيير، بينما نتصدَّى بقوة وإصرارٍ ـ وحتى بلا رحمة ـ لانهيار المناخ، وعدم المساواة الهيكلية، والمَظالم المتراكمة في لحظتنا التاريخية هذه؟ كيف نقاوم تلاعب الدول، والمصالح التجارية العالمية، والجهات الفاعلة القوية الأخرى التي تسعى إلى السيطرة على محيطنا البصري؟ كيف ننتقي بيئاتنا البصرية الخاصة بنا، ونسمح في الوقت نفسِه للآخرين باختيار أجوائهم الخاصة؟ متى تكون المشاهدة مسئولية أخلاقية؟ ومتى يكون من الأخلاق أن نَصرِف أبصارنا ونرفض المشاهَدة؟
وتشير بويلان إلى أن الصورة الشخصية لدانييل وارد (1765-1767)، بمتحف الفنون الزخرفية الجنوبية المبكرة، وينستون-سالم) تُعَد نموذجا عاما إلى حدٍّ كبير للصور الشخصية في القرن الثامن عشر… وربما رأى أجيالٌ منهم هذه الصورة الشخصية التي تُصوِّر سلفهم معلَّقةً على الجدران. قد يكون ذلك نهاية قصة الصورة؛ ربما كانت لتجد طريقها إلى متحف أو دار مزادات، أو الأرجح أن تُعلَّق فوق مِدفأة، أو تُخبَّأ في عُلية أحد المنازل. ولكن، كما تروي المؤرخة الفنية جينيفر فان هورن، أخذت الصورة في أثناء الحرب الأهلية منعطفًا آخَر عن هذا المستقبل المضجر. فقد انتزع شخصٌ مُستعبَد الصورةَ من جدار البيت، وأخذها إلى منزله، وغطَّاها بالجرائد ليُعيد استخدامها كحاجِبة لنار مدفأته.
وتؤكد أنه بهذه البساطة، تحوَّلت الصورة إلى شيء آخر، وأصبحت تحمل معنى مختلفا، وتغيرت. تلك الأفعال التي تمثَّلت في أخذ اللوحة، وتحويلها إلى عنصرٍ منزلي مفيد، ومريح، وزخرفي، غيَّرت معناها. كما تقول فان هورن في إشارة بعيدة النظر، إنه من خلال هذا التحوُّل: “أقدَم المُستعبَدون على محو أو إعادة كتابة الرسائل المقصودة من اللوحة التي كانت ترمز إلى هيمنة البيض وقوتهم”، فما كان في يومٍ ما رمزا للعنف والقهر أصبح مصدرا للراحة والحماية للجسد الأسود والأسرة السوداء. بعبارة أخرى، انتقلت اللوحة من كونها نوعًا من السلاح إلى نوعٍ آخَر. ومن ثَم، حتى عندما أخذت القصة منعطفًا آخَر ـ عندما استرجعت العائلة البيضاء الصورة، ونظَّفتها وتبرعت بها لأحد المتاحف لتأخذ مكانها بين رموز النخبة البيضاء وثرواتهم الموروثة ـ لم يعد في الإمكان إعادة اللوحة إلى رسالتها الأصلية. لقد اكتسبَت معاني جديدة وطرقًا جديدة للتأثير في العالم”.
علينا أن نأخذ الثقافة البصرية على محمل الجد، نحتاج إلى التفاعل بشكلٍ أسرع، وأن نكون يقِظين ومنفتحين بحذرٍ
وترى أن “الممارسة هي ما نحتاج إليه، التكرار المستمر للتفكير بعمقٍ حول جميع الصور والأجواء البصرية التي تحيط بنا. يجب علينا جميعًا أن نأخذ الثقافة البصرية على محمل الجد أكثر، نحتاج إلى التفاعل بشكلٍ أسرع، وأن نكون يقِظين ومنفتحين، ولكن بحذرٍ في الوقت نفسه. يجب أن نتساءل طوال الوقت: مَن المستفيد من الصور؟ وكيف؟ باختصارٍ، يجب أن نفكر باستمرارٍ في الأسئلة: ما، وأين، ومَن، ومتى، فيما يتعلق بالثقافة البصرية. لكن لا تخطِئوا الفهم، ففي طرحي للإمكانات الباعثة على التفاؤل للثقافة البصرية، أفعل ذلك من خلال التكتيكات التي تصفها الباحثة سارة أحمد بأنها “مُفسِدة للبهجة”. إذ يجب ألَّا نسمح للثقافة البصرية بأن تجتاحنا.”
وتختم بأنه “لطالما كانت الثقافة البصرية مَصوغة من قِبل القوى المسيطرة، ومن خلال الهيمنة، لكنها انطوت دائمًا على المقاوَمة، والانقلاب، والتخريب. كشف كثيرٌ من الأعمال الأكاديمية حول الثقافة البصرية خلال الخمسين عامًا الماضية عن تلك اللحظات من المقاوَمة، واستكشفَها، مما جعلها مرئية بطرقٍ جديدة لتنتشر. هذه هي القوة البصرية المُسخَّرة بوصفها عاملًا للتغيير الإيجابي والتوحيد.. إذا رفضنا الاستهلاك غير المواجِه للثقافة البصرية، فإن خيارنا، كما تقول سارة أحمد، ‘يمكنه أن يفتح حياة، ويخلق مساحةً للحياة، ويخلق مساحةً للإمكانية، للفرص’. هذا عمل شاق، لكن إلحاح اللحظة التاريخية التي نعيشها يتطلَّب أن نصبح جميعًا ناشطين بصريِّين. يجب أن نرفض السلبية والاستهلاك المجرَّد، والاختيار بين الأشياء والنظريات البصرية المُنتقاة لنا سلفًا، متجنِّبين تلك الفوضى في الممر لنتجاهل الاضطراب. لطالما كانت الثقافة البصرية وسيلةً لإمكانات هائلة، وحاملةً لظلمٍ لا نهائي. يجب أن نكون أكثر حزمًا، وأكثر دهاءً وتفكيرًا في تعاملنا مع الأجواء البصرية. فقط انظر حولك؛ فذلك ممكِن تمامًا.”