التونسي مروان الطرابلسي يستعيد بألوانه الحارة بهاء وطنه المأزوم

"تأمّل داخلي" ينقل طاقة إيجابية إلى المتلقي من خلال الأشكال والألوان والتراكيب.
الخميس 2021/11/11
أسماك طائرة وأشجار معلقة تدعو المُتلقي إلى قطافها

تونس - "تأمّل داخلي" عنوان صوفي إيحائي للمعرض المُقام حاليا برواق "صلاح الدين" بضاحية سيدي بوسعيد بالعاصمة تونس للتشكيلي والفوتوغرافي والمخرج السينمائي التونسي مروان الطرابلسي.

معرض يضمّ ثمانية وعشرين لوحة ذات أبعاد مختلفة وأشكال متنوّعة توزّعت بين دائرية ومربعة ومستطيلة وبيضاوية؛ حيث كل شكل يمثّل سلسلة منفصلة لكنها متصلة من حيث التقنية المستخدمة، والتي أتت جميعها عبر مادة الإكريليك على القماش وعلى الخشب.

معرض ينقل طاقة إيجابية إلى المُتلقي، من خلال الأشكال والألوان والتراكيب، حيث يمكن للقماشة وألوانها وحركاتها وما تُخفيه بين ثناياها من أضواء وظلال أن تشفي الأنا والآخر على حدّ سواء من إكراهات واقعنا اليومي، وذلك وفق منظور توعية الجمهور بدور الفن وتأثيره السيكولوجي والاجتماعي والسلوكي على صحة الإنسان.

هو معرض مضاد للكآبة التي اجتاحت تونس في العشرية الأخيرة والتي ارتهنت التونسيين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وصحيا أيضا في السنة ونصف السنة التي مرّت وما تزال مستمرّة، بما حملته من فايروس قاتل لمشاعر مُشاركتنا بعضنا البعض الجمال والعناق واللقاء، قبل حصدها للآلاف من الأرواح العليلة.

معرض قال عنه الطرابلسي “هو انعكاس للطبيعة في حديقتي الداخلية، أقوم بتجسيدها في الشكل واللون، والأشجار العملاقة والأسماك الطائرة، وتواصل العين والتركيبات التحليق في أذهان المتلقّين وخيالاتهم، إنه معرض يشجّع على الصحوة الداخلية لكل واحد منّا”.

مروان الطرابلسي: المعرض انعكاس للطبيعة في حديقتي الداخلية شكلا ولونا

ويسترسل في تصريح لـ”العرب”، “هذا المعرض هو قبل كل شيء شكل من أشكال المصالحة مع الذات واكتشاف حديقتنا الداخلية، هو بمثابة الغوص في أعماق الذات والدخول في حدائقها

وبحارها، فيكبر الشجر فينا ويحلّق الطير بداخلنا، كما ينغمس السمك في مائنا، هو اكتشاف للمخفي فينا والبحث والتمحيص في خبايا الذات".

صدقا قال الطرابلسي، ورسما فعل بأبعاد صوفية خالصة تجسّدت في أعماله/لوحاته الثابتة منها والمحلّقة/المعلّقة، كتلك الأسماك والأشجار والمربعات والدوائر المزروعة بسقف الرواق، داعية المُتلقي لقطفها، كمن يقطف فاكهة طازجة من ثمار الجنة، جنة مروان الطرابلسي الذي عرفته دائم الابتسام ولو في أحلك اللحظات وأقساها.

مهرجان أضواء سيمفونية هي ألوانه، وتقطيعات مشهدية سينمائية هي خيالاته، وتجليات صوفية هي أشكاله التي تنوّعت بين المربعة والمستطيلة والبيضاوية والدائرية التي تصنع شكلا منضبطا ومتوازنا وشيئا من التماثل والتكرار غير الممل.

تماثل وتكرار يدعوان المُتلقي إلى التحرّر من أدران واقعه المعيشي المُضني، ليُسافر ولو لبضع أجزاء من الثانية في جنة الطرابلسي الموعودة ، بل الموجودة أصلا، جنات عدن هادئة وضاجة بالألوان والحركة معا، حيث الدائرة فضاءً واسعا وسديما للألوان. أليس السديم الكوني هو أصل الشموس؟ أليست الدائرة رمزا لها؟

والطرابلسي في بيضاوية لوحاته ودائرية إطاراته، يهجّينا ألف باء التكوين، محاولا إضاءتنا على حقيقة، مختبئة، هناك فيه وهنا فينا، مفادها أن الجمال هو ترياقنا متى اشتدّت الأزمات وجارت علينا الحياة.

وما علينا ونحن في حضرة تأمّلاته الداخلية، بل وتأمّلاتنا نحن الجوّانية، سوى النظر بتمعّن خاص في لوحاته لنعشق الحياة، ونرتكب محرّماتها بقطفنا لثمار أشجاره المعلّقة هنا وهناك في سقف الغاليري.

يرتحل بنا الطرابلسي وهو التشكيلي والفوتوغرافي والسينمائي نحو إيّاه، لنجد أنفسنا مُشاركين، ومُشتركين معه بهاء حقوله البصرية الخاصة، بعيدا عن الهرج والصراخ والكآبة. حقول حيث بهرج اللون وشساعة الإنصات للوحة وأشكالها المتصوّفة في ارتفاعها إلى السماء، ودورانها حول نفسها، وتداخل ألوانها الحارة/الحارقة دون أن تكوينا بلهيب نار الآني والآتي، على العكس نحبها ونستطيب المثول أمام سطوة شعاعها قزحيّ الألوان، فنستعيد الربيع فينا ونحن في عزّ خريف وطن مُتداع للسقوط، لولا مروان الطرابلسي وأمثاله.

لا شخوص في اللوحات ولا أمكنة ولا أزمنة سوى الربيع، بألوانه الخضراء والحمراء والصفراء والزرقاء وكل ما تدرّج عنها، لا مكان للأسود والرمادي هنا، إنما المساحة ممتدّة رحبة لعجينة الألوان الحارة ومشتقاتها، ومن كان يجد في العتمة شفاء ونقاء لا يدخلنّ علينا.

تماثل وتكرار يدعوان المُتلقي إلى التحرّر من أدران واقعه المعيشي المُضني
تماثل وتكرار يدعوان المُتلقي إلى التحرّر من أدران واقعه المعيشي المُضني

هكذا هو مروان الطرابلسي التشكيلي والفوتوغرافي والسينمائي، فنان البهجة والانتصار للحياة والمنصف للفنان -وإن تنكّرت له الأيام - تماما كما فعل في فيلمه الوثائقي “الرجل الذي أصبح متحفا” الذي تناول فيه بالصورة والصوت سيرة ومسيرة الفنان التشكيلي التونسي الراحل علي عيسى (20 مارس 1938/ 19 ديسمبر 2019)، مؤسّس ومدير “الرواق الوطني محراب الفنون”، بيته ومرسمه، والذي أقام فيه بمفرده لعقود، قبل أن يُفارق الحياة عن سن ناهزت الإحدى والثمانين عاما وحيدا في بيته/محرابه، تاركا وراءه ما يزيد عن ثلاثة آلاف لوحة، وابنا، روحيا، بارا اسمه مروان الطرابلسي خلّد ذكراه بفيلم أيقوني حصد من خلاله العديد من الجوائز الدولية.

وللفنان وثائقيان آخران هما: “صامدون” (2012) و”المُغرّبون” (2014)، علاوة على ثلاثة أفلام روائية قصيرة، هي “في عيني طفل” (2007) و”أمي نجم النجوم” (2008) و”نصف روح” (2021). كما له العديد من المعارض الجماعية والفردية بتونس وليبيا والمغرب ومالي وفرنسا.

15