"فرططو الذهب" فيلم تونسي ينتصر للفن بواقعية سحرية

تونس – يواصل المخرج التونسي عبدالحميد بوشناق على عادته مفاجأة جمهوره بخيالاته السينمائية الجامحة، التي تنهل دون أن تسقط في التقليد الأعمى من المدارس الإخراجية العالمية على غرار ستيفن سبيلبرغ وجايمس كامرون وبيتر جاكسون، “مُتوْنسا” رؤاه للفن والحياة بمزاجه الخاص، فلا تملك إزاءه إلاّ أن ترفع “القبعة” إجلالا وإكبارا له ولمنجزه الفني القليل، نسبيا، لكنه عميق الأثر جماليا.
هي، طبعا، “قبعة الساحر” التي ظهرت في فيلمه الروائي الطويل الثاني “فرططو الذهب” المُشارك في النسخة الثانية والثلاثين من مهرجان أيام قرطاج السينمائية.
و”فرططو الذهب” أو “الفراشة الذهبية” هو فيلم داخل فيلم، أو بعبارة أدق، هو فيلم بلا بداية ولا نهاية، ولو أن البداية مأساوية والنهاية مفتوحة على السعادة ومُشاركة الآخرين آمالهم وأمنياتهم، ولو بشكل متخيّل.
فيلم يستفزّ المُشاهد ويغوص به عميقا في بواطنه، مُستعيدا الطفل الكامن فيه. روائي مُربك قال عنه المخرج السينمائي التونسي إبراهيم لطيف “هو فيلم مميّز، يبرز مخرجا حقيقيا له جنون وجرأة سينمائية لا يملكها غيره”.
والفيلم الروائي الثاني لبوشناق ينطلق من قصة الشرطي الثلاثيني معز، قام بالدور محمد السنوسي، الذي يبدو مُتعجرفا وفضا في الظاهر، لكنه حليم وإنساني في الباطن، حيث يتتبّع المخرج علاقة معز بأبيه عبدالوهاب (فتحي الهداوي) وتشعّب حيواتهما، حيث يبدو الأخير، أي الأب، قاسيا وسكيرا، لا يتردّد في إيذاء كل من حوله، أما الابن فبدا كارها لأبيه وتصرفاته الصدامية، ولو أنه يتشبّه به كثيرا من حيث القسوة والصرامة على الأقل.
في الأثناء يظهر لمعز طفل، قام بالدور ريان داودي، غريب الأطوار في منزله يحمل له رسالة مفادها أنّه مصاب بمرض نادر في عينيه، وأنّه سيفقد نظره قريبا، فيتعاطف معه ويقرّر أن ينطلق به في رحلة أقرب للخيال منها إلى الواقع، واعدا الصبي أن يُريه ما لم يُشاهده مطلقا، قبل أن يفقد بصره بشكل نهائي.
من هناك تختلط الأحداث بين الواقع والخيال، وتتكشّف معالم الحكاية/ اللغز، حيث لا الطفل حقيقيّ، ولا الأب قاسي القلب، ولا الشرطيّ فضّ وعنيف، إنها ارتدادات الماضي التي أرادها بوشناق تكريما لكل فنان أصيل يمنح الناس السعادة ويحثّهم على الحياة، وإن كان خسر هو حياته، أصلا.
فوالد معز هو بالأساس فنان مسرحيّ، أحبّ وحيده حدّ العظام، وأراه من صنوف الفنون الفرجوية وسحر الألعاب البهلاونية والخدع السحرية وهو طفل ما لا يخطر على بال أحد، إلى أن قست عليه الأيام، وتنكّر له أهل القطاع ونسيته الجماهير، فاستحال سكيرا عربيدا وعنيفا، مع آل بيته قبل الغرباء، وما الطفل صاحب الرسالة إلاّ معز وهو يودّ العودة إلى طفولته البكر الصافية كـ”فرططو الذهب” الذي لا يراه إلاّ من كانت سريرته ناصعة البياض كقلب معز المُصاب بالعمى العاطفي، ولو مؤقتا، بعد أن أنكر فضل والده عبدالوهاب عليه، وهو الذي علّمه حب الحياة وزرع فيه الشغف بالفن والإخلاص للوطن وإن جار عليه.
ربما معز هو عبدالحميد بوشناق بشكل ما، وربما عبدالوهاب هو والده المطرب التونسي – العربي الشهير لطفي بوشناق بتصوّر مُغاير، وربما “فرططو الذهب” هو إهداء من الابن لأبيه، واعترافا له بجميل تغلغله، هو وأخيه حمزة بوشناق، واضع الموسيقى التصويرية للفيلم، في عالم الفنون وجنونه، فإن كان الأمر كذلك، فكم جميل هذا التكريم.
“فرططو الذهب” باختصار، هو رحلة سحرية أخرى لعبدالحميد بوشناق يستكمل فيها ما بدأه في عالمي السينما والدراما التلفزيونية، فإن كان “دشرة” أول فيلم رعب تونسي يقدّم سردية سينمائية تنهل من الخرافة الشعبية بلغة سينمائية مُبتكرة، وإن كان مسلسل “نوبة” بجزأيه استعادة لملحمة موسيقية/ فرجوية برؤى درامية نوستالجية، وإن كانت سلسلة “كان يا ما كانش” فنتازيا كوميدية تمرّدت على النمطية شكلا ومضمونا، فإن “فرططو الذهب” كل هذا وذاك ويزيد بلعبه الساحر على الظاهر والخفي، المعلن والمبطّن والواقعي والخيالي، وحسنا فعل المركز الوطني للسينما والصورة بتونس بترشيحه الفيلم للمنافسة ضمن القائمة الأولية لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي في العام 2022.
والروائي الطويل المنتظر عرضه انطلاقا من السابع من نوفمبر الجاري بكامل المحافظات التونسية الأربع والعشرين، هو من بطولة كل من فتحي الهداوي ومحمد السويسي وهالة عياد وإبراهيم زروق ورباب السرايري والطفل ريان داودي.
وهو الفيلم الرابع في رصيد بوشناق، بعد تجربة أولى تمثّلت في فيلم وثائقي – روائي طويل بعنوان “قديما كركوان”، ثم الفيلم الروائي القصير “كعبة حلوى”، تلاه فيلم “دشرة” الذي حقّق نسب مشاهدة عالية في القاعات التونسية تجاوزت مئة ألف متفرّج في أقل من شهر.
ويتنافس “فرططو الذهب” على التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة إلى جانب أحد عشر فيلما عربيا وأفريقيا، اثنان منهما تونسيان، وهما “عصيان” للجيلاني السعدي و”مجنون فرح” لليلى بوزيد.
كما تتنافس تونس أيضا على مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة بثلاثة أفلام، وهي “حلال سينما” لأمين بوخريص و”أبي فيم أفنيت شبابك؟” لأكرم عدواني و”مقرونة عربي” لريم التميمي.
أما مسابقة الأفلام الروائية القصيرة فتشهد بدورها مشاركة ثلاثة أفلام تونسية، وهي “في بلاد العم سالم” لسليم بلهيبة و”فريدا” لمحمد بوحجر و”سواد عينيك” لطارق الصردي. كما يُشارك الفيلمان “سياح خارج الموسم” لماهر حسناوي و”يا عمّ الشيفور” لبية مظفر في مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة.
فيما تُشارك تونس في مسابقة السينما الواعدة بثلاثة أفلام، وهي “فالصو” لأمين غزواني و”أمل” لآمال كراي و”تفاحة الحب” لدنيا غضاب.
وتختتم فعاليات الدورة الثانية والثلاثين من أيام قرطاج السينمائية السبت بتوزيع التانيتات الثلاث، الذهبية والفضية والبرنزية، على الفائزين في مسابقات المهرجان الإحدى عشرة بين قديمة وأخرى مستحدثة.