"في بلاد العم سالم" فيلم تونسي يلخّص خيبات الثورة في عَلم مُمزّق

في فيلمه الروائي القصير الأول المعنون بـ"في بلاد العم سالم" اختار المخرج التونسي الشاب سليم بلهيبة أن يتتبّع في 14 دقيقة قصة العم سالم الموجعة، راويا من خلالها بعضا من أحداث الثورة التونسية وفق إخراج سينمائي سلس فاقد للحوار، لكنّه مُشبع بالمعاني والرموز، الأمر الذي جعله يتوّج مؤخرا بجائزتين دوليتين.
تونس - ترصد كاميرا المخرج التونسي الشاب سليم بلهيبة في فيلمه الروائي القصير “في بلاد العم سالم” (إنتاج 2020)، خطوات العم سالم، لتوثّق من خلاله الثورة التونسية والحلم الذي كان، والذي تحوّل بسرعة إلى خيبة أمل أصابت العباد والبلاد في مقتل.
ويروي الفيلم في 14 دقيقة، قصة حارس مدرسة يشرع في أواخر شهر أغسطس 2013، في إجراء إصلاحات على مدرسة ابتدائية بقرية متاخمة للعاصمة تونس استعدادا للعودة المدرسية التي تنطلق في البلد في الخامس عشر من شهر سبتمبر من كل عام.
ومن هناك يُبادر العم سالم (قام بالدور شريف المبروكي) بإجراء بعض الإصلاحات على المدرسة التي يعمل فيها بإمكانياته البسيطة، ليكتشف في الأثناء أن العلم (رمز الوطن) الذي يتوسطّ ساحة المدرسة قد بَلي واهترأ وتمزّق بفعل الزمن، فيُبادر تلقائيا بالتحوّل إلى العاصمة تونس لجلب علم جديد من ماله الخاص.
هكذا تبدأ حكاية الفيلم الصامت إلّا لماما، لننتظر مرور زهاء نصف أحداث العمل حتى نسمع أول جملة منطوقة فيه، (الدقيقة السادسة تحديدا) والتي وردت على لسان امرأة كانت تجوب أزقة المدينة العتيقة للعاصمة، وهي تجرّ طفلها الصغير وتحثّه على الإسراع، قائلة بينها وبين ما تبديه نفسها من خوف “اللهم عدّ هذا اليوم على خير”. وهي اللحظة ذاتها التي أتمّ فيها العم سالم اقتناء العلم الجديد من أحد الدكاكين، مقرا العزم على العودة إلى قريته.
وفي مشهد لاحق تدور الكاميرا في أكثر من اتجاه وزقاق، لنرى حارس المدرسة وهو يتأبّط علمه الجديد، ومجموعة من الشباب التونسي المحتجّ يصرخ “أوفياء.. أوفياء.. لدماء الشهداء”، قبل أن يركضوا كيفما اتفق إثر ملاحقتهم من عناصر الشرطة.
ودون وعي منه يركض العم سالم بدوره ناجيا بنفسه، ومع ذلك يتم القبض عليه ويقع اقتياده إلى المخفر مع زمرة من الشباب الثائر، وفي مشهد تال تعرض الكاميرا الواجهة الأمامية لقصر العدالة (المحكمة)، استعدادا للنطق بالحكم في القضية عدد 3214، المتهم فيها العم سالم ومجموعة الشباب الذين تم اعتقالهم.
صوت آخر يأتي هذه المرة من أروقة المحكمة، هو صوت القاضي القائل “قرّرت المحكمة بعد المداولة السجن لمدة 15 يوما مع النفاذ العاجل، وخطية مالية قدرها 150 دينارا لكل الأسماء التالية ذكرها..”، وذلك نتيجة لما نسب إليهم من إحداث للشغب والإخلال بالأمن العام.
تنقطع الصورة، ليسود بعض السواد، ثم نرى العم سالم وهو يخرج من السجن بعد قضائه 15 يوما في غياهبه، وهو الذي اقتيد إليه ظلما، أو لنقل بعبارة أدق بعد أن حُشر عن طريق الخطأ في قضية لم يُشارك فيها أصلا، لنرى مشهدا رابعا لأطفال القرية وهم يهرولون فرادى وجماعات متجهين نحو مدرستهم.. إنه يوم العودة المدرسية المرتقب، وفي الأثناء يظهر العم سالم بشعره الذي اعتراه الشيب وبذقن غير حليق، يجرّ قدميه جرا في اتجاه المدرسة، ليفتح بابها أمام التلاميذ المندفعين إلى ساحتها.
ولأول مرة ينطق العم سالم في الفيلم حين يحثّه أحد المعلمين بالإسراع في خطواته، فيجيبه بكلمة نابية، ربما تعبيرا عن سخطه وغضبه وهو العائد لتوّه من السجن، وربما هي أيضا تأكيدا على خيبة أمله إزاء ثورة لم تُحقّق أهدافها للطبقات الكادحة التي أشعلتها.
كلمة واحدة قالها الحارس الأمين على العَلم والعِلْم معا، أتت منافية للأخلاق، قالها وهو يواصل مشيه الهوينا، ليرتدي ميدعته الملطّخة بالطلاء في مشهد استعادي لأول لقطات الفيلم حين كان الحارس يقوم بطلاء جدران المؤسسة التعليمية استعدادا للعودة المدرسية.
وفي مشهد أخير للفيلم المُشبع بالرمزية يرفع العم سالم العلم وسط أبنائه وهم يصدحون بالنشيد الوطني في حماسة، لتُظهر الكاميرا أن العلم لم يُستبدل، بل بقي ذاك القديم المهترئ، حيث يبدو أن حارس المدرسة أضاع العلم الجديد الذي اقتناه من العاصمة في زحمة الاحتجاجات التي وجد نفسه فيها قسرا، والتي كلّفته حريته ودخوله السجن للمرة الأولى في حياته، في إشارة إلى ضياع وطن بأكمله إثر ثورة 14 يناير 2011 بين محتجين وخاضعين ومستفيدين، فيما الغالبية الصامتة كحال العم سالم هي أكبر المتضرّرين.
والصمت كان البطل الأوحد للفيلم الذي انطلق صامتا وانتهى صادحا بالنشيد الوطني التونسي الذي تغنّى به الأبناء/ التلاميذ، وكأنهم الوحيدون القادرون على الكلام والتغيير في زمن لاحق من وطن نخرته المصالح السياسية الضيقة.
بساطة الطرح في الفيلم لم تخف عمقه ورمزيته بدءا بالعنوان الذي جاء شبيها بجملة “في بلاد العم سام”، وما تحيله إلى الحلم الأميركي التي كانت تبشّر به الولايات المتحدة الأجداد والآباء، ولا تزال أيضا تمني به الأبناء بالوجاهة والحرية في بلد تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، وهو ما حلم به التونسيون بعد ثورة 14 يناير، ليكون فيلم “في بلاد العم سالم” الذي أتى في 14 دقيقة -والرقم 14 ليس اعتباطيا هنا بالتأكيد- توثيقا لملامح اليأس الذي اعترى قلوب التونسيين وأدماها وسط خيبات اجتماعية متواترة واقتصاد شارف على الإفلاس وشارع اكتسحته ثقافة الكلمات النابية، كالتي أطلقها العم سالم في وجه معلّم المدرسة؛ فما عاد المعلّم رسولا!
والفيلم المحمّل بالعديد من الرسائل والمعاني والرموز، والذي انتهج فيه مخرجه وواضع السيناريو له أيضا، سليم بلهيبة، أسلوبا إخراجيا سلسا يُداعب العواطف ويُقحم المشاهد في جل تفاصيله الصامتة دون تعقيدات ولا مبالغات، وقد حاز مؤخرا على جائزتيْ الجمهور في كل من مهرجان الفيلم الأفريقي ببلجيكا في دورته الخامسة والعشرين المنتهية أخيرا، وكذلك في المهرجان الدولي لسينما المؤلف بالعاصمة المغربية الرباط الذي احتفى هذا العام بيوبيله الفضي.
وسليم بلهيبة أنتج في العام 2014 الفيلم الروائي القصير “ميلودي” لمخرجته مروى الرقيق، وفيلم “في بلاد العم سالم” هو العمل الأول له، وحاليا يستعدّ للانطلاق في تصوير فيلمه الروائي الطويل الذي لم يعلن عن عنوانه بعد.