المسلسل التونسي "الفوندو".. تشويق أربكته لا منطقية الأحداث

تونس – بحساب لعبة الأرقام وقياس نسب المُشاهدة تفوّق المسلسل التونسي “الفوندو” الذي عرضته قناة “الحوار التونسي” الخاصة في الموسم الرمضاني 2021 بأشواط على منافسيه “أولاد الغول” و”حرقة” والمسلسل التونسي الجزائري المشترك “مشاعر 2” على الترتيب، رغم إجماع الصحافيين والنقاد على تميّز مسلسل “حرقة” للمخرج الأسعد الوسلاتي بطرحه الجريء لقضية إشكالية تناولت بمشهدية بصرية مُوجعة نصا وإخراجا وأداء هجرة الشباب التونسي والمغربي والأفريقي إلى الضفة الأخرى من المتوسط على مراكب الموت.
ورغم كل ما تقدّم تمكّن “الفوندو” عن سيناريو وإخراج لسوسن الجمني من افتكاك صدارة المُشاهدات، على امتداد حلقاته الخمس الأولى على الأقل بنسبة فاقت الـ47 في المئة، قبل أن يسقط من عليائه بتعمّده إطالة الأحداث وتمطيطها بلا هدف، عدا إثارة غرائز بعض المُراهقين الذين يرون في “البلطجة” والفحولة الكاذبة تعويضا عن إمكانية تحقّقهم في مجتمع تداعى بشكل مُمنهج ثقافيا وقيميا منذ ثورة الـ14 من يناير 2011، وما بعدها.
وتجلّى ذلك من خلال المُبالغة في إبراز شهامة البطل “يحيى” (جسّد دوره نضال السعدي) مع أصدقائه ومحيطه العائلي، مع التأكيد على ذكوريته الطاغية وعشق الجميلات له، رغم مكوثه لنحو عقدين كاملين في غياهب السجن بتهمة قتله للصبية “مريم”.
وهذه الحادثة، أي جريمة القتل الغامضة للصبية مريم، هي مربط الفرس في المسلسل الذي شوّق متابعيه على امتداد 21 حلقة لمعرفة الجاني الحقيقي، بعد إنكار يحيى الصريح لعدم اقترافه الجريمة التي جعلته يقضّي ذروة شبابه اليافع بين القضبان، ساعيا بعد خروجه من السجن للكشف عن ملابسات الحادثة التي ثبت أن صديقه “سليم” (ياسين بن قمرة) هو من اقترفها بتواطؤ مع حارس الفيلا/ مسرح الجريمة.
ومن هناك بدت النهاية مخيّبة لنسقية الحكاية التي انطلقت قوية ومشوّقة بعقدة البحث عن الجاني الحقيقي في دراما تلفزيونية شغلت الشارع التونسي على امتداد الموسم الرمضاني المنقضي، بل وملأت صفحات التواصل الاجتماعي بهاشتاغ “شكون قتل مريم؟” (من قتل مريم؟)، لتغدو جريمة القتل المتخيّلة تلك بمثابة قضية أمن قومي في مجتمع يمرّ بأعنف أزماته الاقتصادية منذ الاستقلال وإلى اليوم.

ومهما يكن من أمر النهاية التي أتت متسرّعة ومفتوحة تُنبئ بإمكانية إنتاج جزء ثان من المسلسل في الموسم الرمضاني القادم، وهي عادة جُبلت عليها قناة “الحوار التونسي” باستمرائها نجاح المسلسلات الأجزاء، وإن انتهت “الخُرافة” في “الفوندو” بالكشف عن الجاني الفعلي، فالثابت أن النهاية المخيّبة لتطلعات المُشاهدين في العمل أملتها وللمرة المئة إكراهات اللحاق بالموسم الرمضاني، وما يتبعه في كل عام من ضيق وقت التصوير، وكأن رمضان يأتي فجأة ودون سابق إعلام لدى غالبية العاملين في القطاع الدرامي في تونس، الأمر الذي جعل بطل العمل نضال السعدي يتخلّى عن تقديم برنامجه الأسبوعي “نهار الأحد ما يهمّك في حد” الذي تبثّه القناة ذاتها العارضة لـ”الفوندو”، لأجل التفرّغ لإتمام العمل، فأتت النهاية مُرتبكة إلى أبعد حدّ وإن أنكر طاقمه ذلك كبرا وخُيلاء.
كما حفلت الحلقات الأخيرة من المسلسل باللامنطقية في الطرح، خاصة بعد مقتل “ريم” (سهير بن عمارة) على يد قريبها “مراد” (محمد علي بن جمعة) الذي ظلت تحوم حوله الشكوك كونه القاتل الفعلي لمريم، خاصة وأن دوافعه كثيرة لقتلها، وهو المدرّس الذي أقام علاقة غير شرعية مع تلميذته المراهقة، لتحمل منه وتهدّده بكشف أمره إن لم يتزوّجها.
لتظل ريم طوال عشرين عاما وهي التي اكتشفت سرّهما الدفين بالصدفة، تعاني لوثة إخفائها لهذا السرّ الذي راح ضحيته حبيبها يحيى بتستّرها عن هذه العلاقة “المحرّمة” التي جمعت قريبها مراد بزميلتها في الدراسة مريم.
ومع ذلك بدا قتل ريم من قبل قريبها مراد غير مبرّر على خلفية أنه كان يخاف اكتشاف أمره وهو المتحرش بتلميذته التي حملت منه، ليُعلن ليحيى أنه أغرق ريم خوفا من انكشاف أمره بعد أن أعلنت الأخيرة نيتها الزواج من يحيى المصرّ على تتبّع الجاني كلّفه ذلك ما كلّفه، وهو الذي كان كل همه الحفاظ على أسرته وزوجته، فأيهما أفظع تسبّبه في حمل فتاة غضّة في فورة شباب عابرة، أم ارتكابه وهو الكهل الناضج لجريمة قتل مع سابقية الإضمار والترصّد، كي لا يُفتضح سرّه، وقد افتضح؟
كما أن تأخّر يحيى في الذهاب مباشرة إلى حارس الفيلا الذي أرسل في طلبه ليعترف له بالقاتل الحقيقي قبل أن تداهمه المنية، غير منطقيّ بالمرّة، وهو المتلهّف لمعرفة حقيقة الجاني، ليسبقه إليه سليم ويقتله، ومن ثمة تتوارى الحقيقة معه، وهما اللذان اشتركا في قتل مريم، ولو عن طريق الخطأ، ودون تعمّد بعد أن اكتشفت الفتاة المقتولة حالة السرقة التي حدثت في بيت عائلة سليم بتواطؤ بين الفتى وحارس الفيلا، ليضعاها معا في سيارة يحيى الذي شرب حتى الإغماء ليلتها، بعد أن أهانته حبيبته مريم، أو من كان يتخيّل أنها تحبه، في حين أنها استغلّت نباهته ومساعدته لها في الدراسة ممّا مكّنها من الحصول على شهادة الباكالوريا، لتتخلى عنه إثرها. وهكذا تورّط في جريمة قتل لم يرتكبها.
وبعيدا عن لامنطقية الأحداث التي حفل بها المسلسل، إلاّ أن العمل على هناته، على مستوى النص خاصة، ومبالغته في استعمال اللقطات “الكلوز آب” (مشهد مقرّب) بموجب أو دونه، تطرّق ولو قليلا إلى موضوع خريجي السجون وما ينتظرهم من معاناة في السجن الأكبر لمجتمع لا يرحم من زلّت به القدم، ولا يمنحه فرصة ثانية للانطلاق من جديد.

كما حفل العمل بتقديمه لوجوه تمثيلية واعدة على غرار مغني الراب مروان نوردو الذي تميّز بأدائه التلقائي لشخصية “جوزيف” والأمر ذاته ينسحب على نسيم بورقيبة الذي جسّد دور ابنه، وأيضا خليل العبدولي الذي جسّد دور يحيى في سن المراهقة، حيث حمل على كتفيه باقتدار ونجاح كل أثقال الحلقة الأولى/المفتاح، فإما أن تشدّ المُشاهد، وهو ما حدث، أو تنفّره من متابعة بقية تطوّرات الجريمة اللغز.
ويحسب أيضا للمسلسل تقديمه للممثلة المخضرمة نعيمة الجاني في دور مختلف، أعادها إلى بدايتها التراجيدية الناجحة، قبل أن يتمّ حصرها في العشريتين الأخيرتين في أدوار كوميدية نجحت في بعضها وفشلت في غالبيتها. وهو ما حصل أيضا مع النجم كمال التواتي الذي جسّد بملامح الوجه أكثر من اللفظ الثرثار دورا مركّبا يجمع بين اللين والشدة دون تكلّف أو مغالاة.
وتبقى أبرز نجاحات المسلسل ذاك الجمع الاستثنائي بين هرمين من أهرامات الدراما التونسية، قلما التقيا في عمل تلفزيوني واحد، وهما كمال التواتي ورؤوف بن عمر اللذان قدّما مشهدا مرجعيا على مستوى الأداء وسلاسة التعبير أعادت إلى عشاق المسرح التونسي تألقهما في الكوميديا المسرحية “كلام الليل” سنوات التسعينات، لكن بطرح تراجيدي هذه المرة.