مدريد وفيينا تدشّنان عهد انتكاسة الشعبويين في أوروبا

انهيار التيار اليميني المتشدد في أوروبا وحشره في زاوية بعيدة عن دوائر الحكم يؤشر على إراحة الجاليات المسلمة خاصة بعد تنامي مشاعر الكراهية ضدها.
الأربعاء 2020/01/22
النتائج الطيبة لم تمكّن حزب فوكس من الحكم

مدريد- رغم سطوع نجم اليمين المتطرف في كافة أنحاء أوروبا منذ سنوات، إلا أن أذرع هذا التيار بدأت تتساقط في بعض دول أوروبا بعدما استأنفت هذا الأسبوع الحكومات التي تقودها تحالفات تقدمية في كل من إسبانيا والنمسا عملها والتي عزلت في وقت سابق اليمين المتطرف.

لكن انتكاسة الشعبويين في مدريد وفيينا لا تلهي في الطرف المقابل برلين عن مواصلة مكافحتها لتنظيمات اليمين المتشدد في ألمانيا والتي باتت تهدد الخصوم السياسيين كما المتديّنين مسلمين كانوا أو يهودا.

ويؤشر انهيار التيار اليميني المتشدد في أوروبا وحشره في زاوية بعيدة عن دوائر الحكم على إراحة الجاليات المسلمة، ولو قليلا، خاصة بعد تنامي مشاعر الكراهية ضدها وضد اليهود كذلك لاسيما في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا والنمسا.

 وكانت فرنسا سباقة في كنس اليمين المتطرف من خلال الهزيمة التي مُنيت بها مارين لوبان رئيسة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف (الجبهة الوطنية سابقا) في الانتخابات الرئاسية عام 2017 رغم ما حظيت به من شعبية واسعة. لكن قاطرة التغيير في أوروبا لم تتوقف عند فرنسا، ففي إسبانيا حمل الاثنين الماضي معه أداء رئيس الوزراء الاشتراكي بيدرو سانشيز لليمين الدستورية ووزراء حكومته لبدء مهامهم لتُطوى بذلك صفحة الأزمة السياسية التي أنهكت إسبانيا لسنوات.

وتعيش إسبانيا منذ أبريل الماضي على وقع انقسامات شديدة وقفت عقبة في طريق تشكيل حكومة ترسي استقرارا سياسيا، وتواجه تحديات كثيرة أبرزها وأد الحركات الاحتجاجية التي يقودها الانفصاليون في كتالونيا.

وعلى الرغم من تعهده خلال حملته الانتخابية بتهميش دور الأحزاب الداعمة للنزعة الانفصالية لإقليم كتالونيا، إلا أن رئيس الوزراء الإسباني ارتأى إقامة تحالفات مع ممثلين عن كتالونيا مفضلا ذلك على مد يديه لليمين المتطرف.

بداية انهيار التيار اليميني المتشدد في أوروبا ستريح المسلمين الذين تنامت مشاعر الكراهية ضدهم وضد اليهود والمهاجرين

وجعل التوجّس من تولي الشعبويين مقاليد الحكم سانشيز يكثف من تحركاته لحشد الدعم لتمرير تشكيلته من خلال عقد تحالفين مع الأحزاب الصغرى الإقليمية.

ولجأ في نهاية المطاف إلى حزب اليسار الجمهوري لكتالونيا الانفصالي من أجل حصد التأييد بعدما نجح في إبرام اتفاق مع حزب بوديموس اليساري الراديكالي لتشكيل ائتلاف حكومي.

وجاءت المفاوضات الشاقة التي قادها سانشيز وأفضت إلى تحالفه مع الحزبين بعد أن تمكن حزبه الاشتراكي من انتزاع 123 مقعدا في انتخابات نوفمبر، ما بوّأه المرتبة الأولى لكن دون الأغلبية التي ستمكنه من الحكم وحيدا.

وبعد أن أبرم صفقة مع الحزبين اليساري والانفصالي، حصل سانشيز على تأييد 167 صوتا داخل البرلمان الإسباني في تصويت ثان على حكومته ما مكنه من تجاوز معضلة الفراغ السياسي.

لكن تحالفات سانشيز التي عقدها لم ترق لليمينيين المتطرفين حيث نظم حزب فوكس اليميني المتطرف مظاهرات في مختلف المدن الإسبانية الأحد الماضي، تنديدا بالائتلاف الجديد. واتهم المتظاهرون الحكومة الائتلافية بـ”تهديد سيادة البلد”.

في النمسا كما في إسبانيا هبت رياح التغيير لتعلن عن إقصاء الشعبويين ممثلين في حزب الحرية اليميني المتطرف من الحكم، لكن كان للحزب نفسه دور في هذا الإقصاء بعد أن أفضت فضيحة فساد إلى انهيار الائتلاف الحكومي السابق الذي كان هو أحد مكوناته إلى جانب المستشار كورتس.

وفاز حزب الشعب المحافظ الذي يقوده كورتس في النمسا بالانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر من العام الماضي بعدما نال 37.5 بالمئة من أصوات الناخبين.

وحقق الحزب زيادة قدرها ست نقاط مئوية في الانتخابات التشريعية المبكرة مقارنة بانتخابات 2017 السابقة، ويمتلك حاليًا 71 نائبًا في البرلمان.

وبعد صدور النتائج النهائية لهذا الاستحقاق قاد كورتس مفاوضات شاقة مع الأحزاب النمساوية لتشكيل ائتلاف حكومي ليتمكن في نهاية المطاف من التحالف مع حزب الخضر. لكن الجدير بالإشارة في هذا التحالف أنه يأتي بين حزبين متباعدين على مستوى الرؤى.

وينتهج الحزب الأول سياسة معادية للمهاجرين ويتبع سياسات مالية عادت بالنفع على الاقتصاد في النمسا، بينما يتألف الحزب الثاني من شخصيات متخصصة في الدفاع عن البيئة.

لكن يبدو أن الاختلافات تلاشت حيث تمكن الطرفان من تشكيل حكومتهما وتأدية اليمين الثلاثاء الماضي.

وجاء ذلك بعدما عقد الرجلان “زواج مصلحة” على أساس تقاسم السلطة لتنفيذ برنامج براغماتي يجمع بين إجراءات “يمينية” تخدم التوازنات المالية العامة وأخرى تعمل على تنفيذ برنامج للتحول الإيكولوجي.

كما أن الحكومة الجديدة، برئاسة المستشار المحافظ كورتس ونائبه لحزب الخضر فيرنر كوجلر، هي أول حكومة في النمسا تهيمن عليها النساء. وأدى 15 وزيرا، من بينهم ثماني نساء، اليمين الدستورية أمام الرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلين.

تعيش إسبانيا منذ أبريل الماضي على وقع انقسامات شديدة وقفت عقبة في طريق تشكيل حكومة ترسي استقرارا سياسيا، وتواجه تحديات كثيرة

وسمحت التغيرات السياسية الجديدة في النمسا للمعنيين بأزمة الهجرة بالحديث عن تعديلات جديدة تخفف من وطأة الأزمة التي يعيشها المهاجرون واللاجئون على حد سواء في أوروبا والتي تتحمل النمسا فيها جزءا من المسؤولية.

وأعربت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، عن أملها في أن تدعم الحكومة النمساوية الجديدة إصلاح قانون اللجوء الأوروبي.

وأقصى تحالف الخضر والمحافظين اليمين المتطرف في النمسا بعد أن كان سببا في إجراء انتخابات مبكرة إثر فضيحة هزت الرأي العام في النمسا.

وتتلخص الفضيحة في نشر وسائل الإعلام الألمانية في مايو الماضي مقطع فيديو أثار دهشة كبيرة، وقد صوّر بكاميرا خفية في جزر البليار عام 2017، ويظهر نائب المستشار هاينز كريستيان شتراخه الذي ينتمي إلى حزب الحرية، وهو يطرح بيع عقود عامة لامرأة شابة قدمت نفسها على أنها ابنة شقيق أوليغارشي روسي، وذلك مقابل منحه تمويلات سرية.

إن التغيرات التي طرأت على المشهد السياسي في كل من النمسا وإسبانيا لا يمكن أن تكون بمعزل عن التحولات التي تشهدها أوروبا التي باتت تخشى أكثر من أي وقت مضى الصعود الرهيب الذي تحققه الأحزاب التي تتبنى فكرا متطرفا.

وسيكون للسياسات التي سترسمها هذه التحالفات دور في درء أخطار اليمين المتطرف.

ولعب معطى تبني قرارات جريئة بشأن التحولات الإيكولوجية دورا هاما خلال الانتخابات الأخيرة في كل من النمسا وألمانيا وكذلك في الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وهو ما جعل اليوم التحالف في إسبانيا، الذي جمع حزبين يساريين هما كل من الحزب الاشتراكي وحزب بوديموس، يضع في أولوياته هذا المعطى من خلال تعيين زعيم حزب بوديموس بابلو إيغليزياس في منصب نائب للرئيس مكلفا بالشؤون الاجتماعية والتحول الإيكولوجي.

ومما لا شك فيه أن الانتعاشة التي عرفتها الأحزاب التقدمية في النمسا وإسبانيا ستكون تجربة تحاول دول أخرى استنساخها على غرار ألمانيا التي تكابد من أجل منع النازيين الجدد من الوصول إلى الحكم أو فرنسا التي يحاول رئيسها ماكرون قطع الطريق أمام الفكر المتطرف.

5