هل تخاطر تونس بطباعة النقود لسدّ فجوات التمويل؟

فرضية اللجوء إلى طباعة النقود في هذه الفترة الحرجة التي تعيشها تونس لسدّ عجز موازنة 2021، ستكون تبعاتها خطيرة حيث ستدخل الاقتصاد الهشّ في دوامة هو في غنى عنها.
الثلاثاء 2021/08/24
خطوة غير مدروسة العواقب

قضية سدّ فجوات تمويل الموازنة تشكّل صداعا مزمنا للسلطات التونسية التي باتت في مفترق طرق صعب على اعتبار أن كل الخيارات المتاحة للخروج من نفق الأزمة ستكون مؤلمة، بما فيها احتمال طباعة النقود، الذي سيفاقم الأزمة المالية إذا أقدمت على مثل هكذا خطوة في ظل شلل محركات النموّ وجمود المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وعدم إمكانية الوصول إلى أسواق الدين الدولية.

في الوقت الذي يرى فيه مجتمع الاقتصاد أن التدابير التي اتخذها الرئيس قيس سعيد منذ أواخر يوليو الماضي قد تبدو مجدية لتحقيق ما عجزت عنه حكومتان تولّتا السلطة منذ توليه الحكم في أواخر 2019، لكن ثمة من يرى أنها لن تكون ناجحة ما لم تكن مقترنة برؤية واضحة يمكن تطبيقها عمليا لمعالجة فوضى الاختلال في التوازنات المالية.

في ظل توقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي التي بدأت في مايو الماضي للحصول على قرض بنحو 4 مليارات دولار، والذي من بين شروط الصندوق الاستقرار السياسي وتطبيق كل ما هو متفق عليه، يبدو اللجوء إلى مساعدة البنك المركزي التونسي في هذه الظروف أمرا مهما، لكن التساؤل الذي يطفو على السطح اليوم: هل يُقدم المركزي على طباعة المزيد من النقود لسدّ فجوات التمويل الهائلة، وبالتالي معاضدة جهود قيس سعيد في برنامجه لإصلاح الاقتصاد؟

اللجوء إلى طباعة النقود خلال هذه الفترة الحرجة، التي تعيشها تونس لا يثير حفيظة المواطنين العاديين، الذين لا يفهم أغلبهم الجدوى من ذلك، بقدر ما يثير حفيظة المختصين، الذين يعتقدون أن الخطوة ستعمّق متاعب الاقتصاد، كما أنها ترسخ القناعة بأن هذا الإجراء يعتبر أحد الحلول السهلة التي تعكس فشل السياسات المتبعة في معالجة الأزمات المتراكمة بشكل جذري، على الرغم من أن الكثيرين يرون عكس ذلك.

إن هذا الإجراء، الذي تقوم به البنوك المركزية في دول العالم، عادة، يعدّ إحدى أدوات سياساتها النقدية للتحفيز على زيادة الإنتاجية سواء من ناحية السلع أو الخدمات، وهو لا يستخدم إلا عندما يكون الاقتصاد في حالة نموّ وليس في حالة ركود، كما هو الحال مع تونس، حيث تكون النقود بمثابة دماء جديدة تضخ في شرايين الأنشطة التجارية والاستثمارية حتى تتمكن من الابتعاد تدريجيا عن مربع أزماتها.

يهدف صانعو السياسات النقدية من هكذا إجراء إلى السيطرة على الأسعار وخفضها، ومن ثم تحفيز أصحاب رؤوس الأموال محليين أو أجانب على الاستثمار بسبب التكاليف المنخفضة، فيزيد الإنتاج تبعا لذلك، وعليه تظهر تخمة في المعروض، ما يؤدي إلى انخفاض الأسعار أكثر ولكن هذه النقطة غير متاحة حاليا في اقتصاد تونس، ما يعني أن ضخ المزيد من الأموال في السوق دون موجب قد يؤدي إلى نتائج عكسية.

لطالما رفض محافظ البنك المركزي مروان العباسي الدخول في متاهة طباعة الأوراق النقدية لتمويل ميزانية 2020 و2021 عبر إتاحة السيولة الكافية للبنوك حتى تتمكن الحكومة من الحصول على قروض، لأنه يرى أن المركزي لا يمكنه تحمل تبعات ما قد ينجر عن ذلك في حال عجزت عن سداد أي مبلغ ائتماني تحصل عليه.

لقد تمسك العباسي مرارا أمام وسائل الإعلام وحتى أمام البرلمان الذي تم تجميد نشاطه بعدم الدخول في هذا النفق، وبدلا من ذلك يرى أن معالجة مشكلة توفير السيولة ينطلق من حوكمة شركات القطاع العام وإعادة عجلة القطاعات الإنتاجية إلى الدوران وتقليص إهدار المال العام.

في المقابل، يبدي المركزي الذي تبلغ احتياطاته النقدية قرابة 7 مليارات دولار مرونة في مسألة طباعة النقود إذا ما تعلق الأمر بمحاصرة السوق السوداء وقد كانت له سابقة في ذلك حيث اقترح في يونيو 2020 على الحكومة اتخاذ هذه الخطوة، والتي تكشف بوضوح محنة صنّاع السياسات المالية في البلاد بين مواجهة شح السيولة النقدية وارتفاع التضخم وازدهار التهريب وبين حماية النموّ الهش، ضمن محاولات شاقة للصمود والابتعاد عن شبح الإفلاس غير المعلن.

على الورق، تحتاج تونس إلى تعبئة قروض إضافية بقيمة تقدر بنحو 18.7 مليار دينار (6.85 مليار دولار)، بينما تشير البيانات الرسمية إلى أن مستحقات الدين العام بلغت 16.3 مليار دينار (6 مليارات دولار) خلال 2021 وحده، لتمويل عجز موازنتها السنوية وسداد المزيد من الديون المستحقة.

المخيف وسط هذه الأرقام هو المنحنى التصاعدي للدين العام الذي من المتوقع أن يبلغ خلال العام الجاري قرابة 35 مليار دولار، وهو يمثل أكثر من 85 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد هذا العام، وذلك مقارنة مع حوالي 30 مليار دولار تم تسجيلها بنهاية العام الماضي.

وأمام الضغوط المالية المتزايدة ونظرا لأن عملية طباعة النقود تبدو مسألة فنية معقدة اقتصاديا، فكل وحدة نقدية يجب أن يقابلها رصيد من احتياطي العملة الصعبة أو رصيد من الذهب، أو سلع وخدمات حقيقية تم إنتاجها، حتى تكون الأموال المتداولة في السوق ذات قيمة حقيقية وليست مجرد أوراق بلا قيمة، فإن السير في هذا الطريق قد يعيدنا إلى الأزمة التي عاشتها الجزائر حينما اضطرت إلى طباعة المليارات من الدولارات لمواجهة أزماتها ولكنها لم تتمكن من ذلك.

في حالة تونس يشكل تجاوز القواعد المسموح بها في مسألة طباعة النقود أمرا محفوفا بالمخاطر، والذي قد يعود بتداعيات اقتصادية وخيمة، خاصة وأن البلاد تعيش في ركود مرتبط بتباطؤ النمو العالمي وكذلك الأزمة الصحية وكذلك بعدم إتمام الإصلاحات، في ظل التغيرات التي طرأت على المشهد السياسي منذ قرابة الشهر.

10