الدكتور هيثم الزبيدي.. إرث إنسان قلّ مثيله

فقدنا رجلًا استثنائيًا حضورُه مصدر قوة، وكلماته بوصلة نهتدي بها وسط ضغوط المهام، كان يتعامل معنا قبل أن نكون موظفين كأبناءٍ له يُقدّر الجهد ويستوعب الخطأ ويقود بالعقل والقلب معًا.
الأحد 2025/05/25
مدرسة في الإنسانية والمثابرة

الفقد موجع في المطلق. لا يُشبهه شيء. هو لحظة تتوقف فيها الحياة، ثم تستمر لكننا نحن لا نستمر كما كنّا. منذ أن بلغنا نبأ رحيل الدكتور هيثم الزبيدي، لم يعد هذا العالم كما كان. الأجواء يغلب عليها الحزن. صوته لم يَعُد يُسمع، لكن صداه ما زال يملأ أرجاء الذاكرة. حضوره غاب في مجموعات العمل داخل صحيفة “العرب”، لكن أثره لا يزال محفورًا في الأعماق. كيف أرثي إنسانًا لم يكن عابرًا.. كيف أكتب عمّن ترك إرثا إعلاميا وثقافيا. إنه عملاق لا تكفيه مجرد كلمات.

لقد فقدنا رجلًا استثنائيًا، كان حضورُه مصدر قوة، وكلماته بوصلة نهتدي بها وسط تقلبات الأيام وضغوط المهام. كان يتعامل معنا قبل أن نكون موظفين، كأبناءٍ له، يُقدّر الجهد، ويستوعب الخطأ، ويقود بالعقل والقلب معًا.

لم يكن خبر رحيل الدكتور هيثم مجرد خبر عابر نُقل إلينا؛ بل كان كالصاعقة التي هزّت كيان كل من عرفه عن قرب. فاجعة خيمت على أروقة العمل وسكنت قلوبنا بالحزن، لأننا لم نفقد رئيسًا ومعلما فحسب، بل فقدنا إنسانًا نادرًا، وقائدًا استثنائيًا، وأخًا كبيرًا كان لنا سندًا في المواقف، ونورًا في أوقات الحيرة لا يبخل بالنصح والمساعدة والتوجيه.

الدكتور هيثم كان مدرسة قائمة بذاتها في الإنسانية والمثابرة. لم يكن موسوعة معرفية فقط. لم تكن مكانته تفرضها سلطته الوظيفية، بل كانت تُبنى كل يوم من خلال صدقه، واحترامه للناس، وعدله الذي لم نحِد عنه يومًا. كان قريبًا من الجميع، لا يتعالى، ولا يختبئ خلف منصبه، بل يتقدّم الصفوف دومًا، يستمع أكثر ممّا يتكلم، ويأخذ القرار بحكمة من لا تحركه العجلة ولا يستهويه الظهور.

◄ لا يمكن للذاكرة أن تغيّب حضوره. سيبقى اسم الدكتور هيثم الزبيدي محفورًا في قلوب من عرفوه، وسيرته نبراسا نقدمها للجيل الجديد، وقيمه ركيزة لما نؤمن به في بيئة العمل والحياة

ما زلت أذكر تلك التفاصيل الصغيرة التي كانت تصنع منه شخصا قلّ مثيله. من خلال علاقته كربّ عمل بمرؤوسيه هناك عشرات المواقف التي تؤكد أنه منفتح مع الكل، صحافيين جددا ومخضرمين لإنجاح مشروعه الفكري. كان مثالًا يحتذى في الانضباط والجدّية. لم يكن يعرف الكلل، وكان دائم السعي نحو الأفضل، لا يقبل إلا بالإتقان، ولا يرضى أن يُنجز العمل بلا روح. كان إذا وضع هدفًا، سار إليه بخطى ثابتة، مؤمنًا بأن العمل الصحفي رسالة، وبأن كل واحد منا قادر على أن يكون مؤثرًا.

في لحظات الشدّة، لم يكن رئيسًا يُلقي التعليمات من بعيد، بل كان أول من يواجه، وأول من يتحمّل. رأيناه مرارًا يتقدّم الصفوف حين تتعقد الأمور. أذكر فترة توقف صحيفة “العرب” لأربعة أيام سنة 2020، ثم عادت إلى الصدور. لقد بث فينا الطمأنينة، وأعاد ترتيب الفوضى بكلمات غلبت عليها عاطفة الإنسان قبل مهمته كرئيس عمل. عندما تلتقي به تحس أنه يشعل الأمل بابتسامة هادئة لا تفارقه حتى في أصعب اللحظات.

في زحمة مشاغله الكثيرة لا يمكن نسيان كيف يطمئن علينا ليس كصحافيين يستحث هممهم للعمل بالجد، وإنما بالتقرب من الجميع كسرا للحواجز. كان يبني الأخوّة والصداقة جنبا إلى جنب مع العمل. لا أنسى سؤاله عني عند عودتي في كل مرة من الإجازة قائلا “كيف كانت إجازاتك.” كان يحثني على عدم التوقف عن الكتابة فهي بالنسبة إليه الإلهام الذي لا ينضب لتحقيق هدفك. من خلال عملي في قسم الاقتصاد تستشعر أنه ملم بأدق التفاصيل وأبعادها، قليلون من يعرف ذلك لأن تركيزه الأكبر كان على السياسة والثقافة.

الموقف الأكثر إنسانية الذي لا يمكنني نسيانه، وهو في عز مرضه، وأغلبنا حقيقة لم نكن نعلم ذلك، عدم تردده في السؤال عن والدتي وعن أحوالها الصحية عندما أجرت عملية جراحية. كان ذلك قبل أشهر قليلة من أول لقاء لي معه خارج أسوار العمل ذات يوم في يناير 2025. الدكتور هيثم يتعامل مع الجميع في مثل هكذا مواقف. هكذا خبرناه. هناك عشرات المواقف لا تكفي الكلمات لاستحضارها.

اليوم، وقد غاب عنا جسدًا، لا يمكن للذاكرة أن تغيّب حضوره. سيبقى اسم الدكتور هيثم الزبيدي محفورًا في قلوب من عرفوه، وسيرته نبراسا نقدمها للجيل الجديد، وقيمه ركيزة لما نؤمن به في بيئة العمل والحياة.

7