أين الحكومة التونسية من ارتفاع الأسعار

التونسيون يواجهون يومياً معركة قاسية من أجل تأمين حاجاتهم الأساسية وسط تضخم لا يرحم وارتفاع متواصل في الأسعار.
الاثنين 2025/06/09
أسعار خيالية مضاربة غير مضبوطة

انفض التونسيون قبل أيام من موسم أضاحي العيد. ما واجهوه في الأسواق لم يثر إلا القلق والامتعاض. أسعار خيالية، مضاربة غير مضبوطة، وغياب شبه كلي لرقابة حقيقية من الدولة جعلت من هذه الشعيرة الدينية مناسبة مؤلمة بدل أن تكون مظهرا من مظاهر الفرح والاحتفال. لقد كانت حلقة من سلسلة حلقات طويلة كانت فيها السلطات مهزومة أمام عبث التجار.

أين الدولة من هذا الإرهاب الغذائي الذي يُمارس على المواطن البسيط؟ لماذا لا تمارس وزارتها ومصالحها سياسة القمع التجاري ضد المضاربين أو ما نطلق عليهم اسم “القشارة” لضبط الأسواق؟

مصطلح الإرهاب الغذائي قد يبدو للبعض درامياً أو مبالغاً فيه، لكنه يصف بدقة ما يحصل حين تتحول الحاجيات الأساسية للمواطنين إلى أدوات للابتزاز والاستغلال. لا يمكن الحديث هنا عن سوق حرة بهذا الشكل. السوق الحرة تكون محكومة بضوابط وقواعد.

ما جرى في أسواق الأضاحي، وما سبقه من ارتفاع جنوني في أسعار الخضر والفواكه واللحوم البيضاء والأسماك على مدار سنوات، يعكس منظومة متكاملة من التسيّب وغياب الدولة، بل وأحياناً تواطؤ بعض أجهزتها مع شبكات الاحتكار والفساد.

التقصير في ضبط الأسواق التجارية وخاصة خلال موسم الأضاحي، مرده فشل الحكومة في تنفيذ سياسات الرئيس قيس سعيد المنحازة للعائلات التي تنتمي للطبقات الضعيفة، بما في ذلك الطبقة المتوسطة

المشهد بسيط في ظاهره ومعقد في عمقه. الفلاح يشكو من الخسائر وارتفاع كلفة الأعلاف وتراجع الدعم، بينما التاجر الوسيط يربح أضعافاً مضاعفة، والمستهلك يدفع الثمن الباهظ. في خضم هذه السلسلة غير العادلة، تغيب الدولة كضامن للعدالة الاقتصادية ومراقب للسوق. أين أجهزة الرقابة؟ أين وزارة التجارة؟ أين ديوان تربية الماشية؟ كلها أسئلة مشروعة يطرحها التونسي الغاضب، وهو يتنقل بين الأسواق بحثاً عن مبتغاه بسعر معقول دون جدوى.

ما يزيد الطين بلة هو الخطاب الرسمي الباهت الذي لا يتجاوز حدود التصريحات العامة والوعود الفضفاضة. الحكومة تبدو وكأنها لا تملك من أدوات التدخل سوى بيانات التهدئة. تبدو وكأنها في جزيرة معزولة. لا بل تبدو كأنها لا تعيش الواقع. أما الإجراءات الفعلية، فهي إما غائبة أو تأتي متأخرة بعد أن يكون الضرر قد حصل والضحايا هم الناس.

عندما تصبح الأضحية حلماً بعيد المنال لأسرة تونسية من الطبقة المتوسطة، فهذا دليل صارخ على فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وعلى تخلٍّ حقيقي عن المسؤولية. هذا نموذج مصغر لأعمال أخرى شبيهة خارج نطاق تغطية الدولة. إن التقصير مرده فشل الحكومة في تنفيذ سياسات الرئيس قيس سعيد المنحازة للعائلات التي تنتمي للطبقات الضعيفة، بما في ذلك الطبقة المتوسطة.

الإرهاب الغذائي لا يُمارسه فقط تجّار المناسبات أو شبكات المضاربة، بل يُغذّيه أيضاً الإطار التشريعي المتهرئ، وضعف الدولة في تنظيم الأسواق، وغياب خطة وطنية واضحة للأمن الغذائي. حين يُترك المواطن لمصيره في مواجهة هذا التغوّل، فإن الحديث عن “القدرة الشرائية” أو “العدالة الاجتماعية” يصبح مجرد شعارات جوفاء.

المخيف في كل هذا هو أن ما يحدث في سوق الأضاحي ليس استثناءً، بل هو مجرد فصل من مسلسل طويل. فالتونسيون يواجهون يومياً معركة قاسية من أجل تأمين حاجاتهم الأساسية، وسط تضخم لا يرحم، وارتفاع متواصل في الأسعار، وتراجع للدينار، وضعف في الرقابة على مسالك التوزيع.

المثير للأسى أن هذه الأزمة ليست ناتجة عن ظرف دولي استثنائي فقط، بل هي نتاج سياسات داخلية مرتجلة وتراكمات من الفشل وسوء الحوكمة. عوض أن تكون الدولة فاعلاً رئيسياً في حماية التونسيين من تغوّل المتلاعبين بالسوق، تحوّلت إلى متفرج، وربما شريك غير مباشر في هذه الفوضى، عبر صمتها أو عجزها عن التدخل الفعّال.

ماذا يجرى في أسواق الأضاحي

من الضروري أن يكون الأمن الغذائي أولوية وطنية قصوى، لا تقلّ أهمية عن الأمن القومي. فالجوع والتجويع والإذلال الاقتصادي لا تقلّ خطورة عن الإرهاب المسلّح. بل إنهما غالباً ما يغذيان بعضهما البعض. فمتى ستفهم الدولة أن معركة المواطن اليومية في السوق هي معركة كرامة، وأن الدفاع عن قدرته الشرائية هو دفاع عن السلم الاجتماعي؟

المطلوب اليوم ليس مجرد حملة ظرفية لخفض الأسعار، بل خطة شاملة تُعيد الاعتبار للمزارعين، وتُحكم الرقابة على السوق، وتكسر حلقات الاحتكار، وتوفر الدعم لمستحقيه الحقيقيين. المطلوب إرادة سياسية جادة تضع المستهلك التونسي في صدارة القائمة أولاً، وتعيد للدولة دورها كضامن للعدالة الاقتصادية والاجتماعية.

في غياب هذه الإرادة، سيبقى التونسيون فريسة سهلة للإرهاب الغذائي وجشع التجار، وسيتحوّل كل عيد إلى امتحان قاسٍ لكرامتهم وقدرتهم على الصمود. والأخطر أن اتساع هذا الشعور بالظلم والتخلي قد يدفع فئات واسعة من المجتمع إلى فقدان الثقة في الدولة ككل، بما يحمله ذلك من مخاطر على الاستقرار العام.

إن كانت الدولة عاجزة عن التدخل اليوم، فمتى ستتحرك؟ وهل من المقبول أن تُترك أسر كاملة رهينة لمضاربين لا يهمهم إلا الربح؟ وهل يُعقل أن نعيش في بلد فلاحي كانت فيه الأمطار خلال الأشهر الماضية منقذا للمزارعين ومربي الماشية، ومع ذلك نعاني من غلاء ما تنتجه أرضنا؟

الأسئلة كثيرة، والإجابات غائبة. وما لم تتحرّك الدولة بشكل عاجل وجدي وبشكل حقيقي وليس من خلال الشعارات، فإن هذا الإرهاب الغذائي لن يكتفي بسوق الأضاحي، بل سيتمدد ليهدد كل نواحي حياة التونسيين بشكل أكثر حدة وأكثر مما قد نتخيل. وربما نرى إرهابا غذائيا أقسى وأشد في الموسم المقبل.

11