نحو مناخ تونسي أكثر إغراء للمستثمرين

تعطينا أحدث أرقام وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي حول تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية إلى تونس بعض التفاؤل الممزوج بالأمل في أن ثمة ما يشير إلى نمو مطرد في الأعمال الجديدة، بما في ذلك التكنولوجيا. هذه المؤشرات لا يمكن قراءتها في سياقها البياني دون فهمها وتحليلها وتفكيك أسباب تضييع الدولة الفرص لجعلها أكبر من ذلك بكثير.
رغم ما تتمتع به تونس من اتفاقيات تجارية تفضيلية مع الاتحاد الأوروبي وبعض دول أفريقيا ومع الصين ضمن طريق الحرير، لكن تدفق الاستثمار ظل دون المستوى. هذا يثير نقاط استفهام حول الأسباب الحقيقية لذلك. فبحسب أرقام الوكالة نمت قيمة الاستثمار خلال أربع سنوات بمقدار 61 في المئة لتقفز من 600 مليون دولار سنة 2020 إلى 960 مليون دولار سنة 2024.
تبقى هذه الأرقام منخفضة مقارنة بسنوات ما قبل 2011، فخلال العقد الممتد بين عامي 2000 و2010 كانت الاستثمارات تتزايد كل سنة، ثم انطفأت جذوتها في العقد الماضي، لتدخل الاستثمارات العقد الحالي في دوامة من البطء، مما يعكس تأثير الصدمات الخارجية وعوامل اقتصادية وسياسية وإصلاحية داخلية على جذب المستثمرين.
لماذا لا تزال تونس غير قادرة على استقطاب استثمارات أجنبية كبرى ومستدامة ونوعية وذات قيمة مضافة بالرغم من مقوماتها الطبيعية والبشرية والموقع الجغرافي الإستراتيجي؟
إصلاح مناخ الأعمال ليس ترفا، بل ضرورة وطنية ملحة إذا ما أرادت تونس الخروج من دائرة الركود المزمن والدخول في دورة نمو حقيقي ومستدام
الاستثمار الأجنبي المباشر يعد من المحركات الحيوية لأي اقتصاد يطمح إلى تعزيز نموه وتحقيق استقرار مالي واجتماعي. وفي الحالة التونسية، فإن هذا النوع من الاستثمار ظل محورا جوهريا في النقاشات الاقتصادية منذ بداية الألفية الثانية، ومع ذلك لم يرتق بعد إلى التطلعات المرجوة رغم الإصلاحات المتكررة والتشريعات المحفزة التي تم إقرارها على مدار العقدين الماضيين.
عرف الاستثمار مراحل متباينة، حيث شهد وتيرة تصاعدية نسبيا بين عامي 2000 و2008، ليبلغ ذروته في حدود 3.24 مليار دولار سنة 2007، وهو رقم لا يُستهان به في سياق اقتصادي مثل تونس. هذا الزخم لم يدم طويلا، إذ بدأ التراجع تدريجيا لأسباب متعددة، أولها التأثر بالأزمة المالية العالمية لسنة 2008، وثانيها تداعيات الإطاحة بنظام بن علي والصراعات السياسية وما تلاه من عدم استقرار طال كل المؤسسات.
رغم التعويل الكبير بعد 2011 على بيئة أعمال شفافة لجذب الاستثمارات، إلا أن الوضع الأمني والضبابية السياسية أجهضا الآمال، وهو ما تترجمه الأرقام الصادرة عن وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي التي تشير إلى أنها متواضعة جدا مقارنة بالحاجة التنموية وتكشف بوضوح عن تحديات داخلية مثل البيروقراطية وضعف الحوكمة، مما أدى إلى تراجع ثقة المستثمرين.
تونس ليست دولة فقيرة من حيث الإمكانيات، لكنها فقيرة من حيث حسن توظيف هذه الإمكانيات. إذ يعاني المستثمر الأجنبي من عراقيل بيروقراطية مزمنة، وتعقيدات إدارية تطيل أمد المشاريع وتُضاعف من تكاليف التشغيل، إلى جانب ضعف الحوكمة والبطء في تنفيذ الإصلاحات التشريعية رغم حرص قيادة الدولة على إضفاء المرونة والتسهيلات وترجمة قانون الاستثمار في الواقع.
وجود اقتصاد غير رسمي يستحوذ على ما يُقدّر بين 40 و60 في المئة من النشاط الاقتصادي يمثل عائقا كبيرا آخر أمام ترسيخ مناخ أعمال تنافسي عادل يشجع على الاستثمار. يُضاف إلى ذلك ما تُثيره النقابات العمالية من توترات اجتماعية متكررة في قطاعات حيوية كالفوسفات والطاقة، ما يزرع الحذر في نفس المستثمر الأجنبي الذي يبحث عن الربح والاستقرار لا المخاطرة والضبابية.
لماذا لا تزال تونس غير قادرة على استقطاب استثمارات أجنبية كبرى ومستدامة بالرغم من مقوماتها الطبيعية والبشرية والموقع الجغرافي الإستراتيجي؟
من بين الأسباب البنيوية الأخرى التي تعيق تدفق الاستثمار الأجنبي، نجد المنظومة الجبائية التي رغم إصلاحها في أكثر من مناسبة لا تزال تُعد غير تنافسية مقارنة بجيران تونس في حوض المتوسط، بالإضافة إلى ضعف البنية التحتية اللوجستية خاصة في المناطق الداخلية التي من المفترض أن تستقطب استثمارات لفك العزلة عنها.
علاوة على ذلك كله، نجد أن بعض القطاعات لا تزال شبه مغلقة أمام المستثمر الأجنبي، على غرار الإعلام والطاقة والتعليم، على سبيل المثال لا الحصر، وهو ما يعاكس توجهات الانفتاح التي يُفترض أن ترافق مسارا اقتصاديا ليبراليا حديثا.
لا يمكن الحديث عن أزمة استثمار دون الحديث عن الثقة التي لا تُبنى بالكلمات أو بالشعارات، بل بالاستقرار السياسي والمؤسساتي وبقضاء مستقل وبتطبيق القانون على الجميع دون استثناء.
فتونس تحتاج إلى أن تترجم الإرادة السياسية إلى قوانين واضحة لا تتغير بتغير الحكومات، وإلى إدارة عمومية أكثر مرونة وتجاوبا مع حاجيات المستثمرين، سواء كانوا محليين أو أجانب.
كما أن استعادة ثقة المستثمر تمر عبر استقرار النظام المالي والقطاع المصرفي ومراقبة حركة رؤوس الأموال بمرونة وفتح الأبواب أمام التعاملات المالية الرقمية، دون الإفراط في القيود التي تشكل عائقا لا داعي له في بعض الحالات.
الاستثمار لا ينقصه الإطار القانوني، بل الإرادة التنفيذية الفعلية. فتونس، برغم تحدياتها، تملك فرصا واعدة خاصة في التكنولوجيا والطاقة المتجددة والصناعة الموجهة للتصدير. ولتحويل الفرص إلى مشاريع قائمة، على السلطات أن تغيّر منطق التعامل من الرؤية الإدارية المفرطة إلى رؤية شراكة حقيقية يكون فيها المستثمر فاعلا في التنمية وليس مصدر تمويل فقط.
إن إصلاح مناخ الأعمال ليس ترفا، بل ضرورة وطنية ملحة إذا ما أرادت تونس الخروج من دائرة الركود المزمن والدخول في دورة نمو حقيقي ومستدام.