التلوث الصناعي في تونس خارج نطاق التغطية

يظهر المجتمع المدني ونشطاء البيئة كقوة ضغط متنامية على المسؤولين في تونس بشأن التلوث الصناعي أو الحوادث البيئية الخطيرة المنجرة عنه. ولا يبدو أن تلك التحركات الاحتجاجية، كما حصل مؤخرا في مدينة قابس جنوب البلاد، ذات تأثير واضح. التاريخ يخبرنا أنها مجرد أحداث عابرة للاستهلاك الإعلامي وأداة للانتقادات بين السياسيين كالعادة، ومعه نزداد يقينا أن الدولة خارج التغطية وأنه لم يعد بالمقدور التعايش مع هذه اللامبالاة.
لا يمكن أن نتحدث عن مسح للبصمة الكربونية أو تنمية أو جذب للاستثمار الأجنبي أو جودة الحياة أو تشغيل، وتونس تُغض الطرف، عمدا أو دون قصد، عن قضية مصيرية كهذه تهدد الأجيال القادمة. فالدولة تعيش مع تلوثها الصناعي واحدا من أخطر التحديات التي تهدد صحة مواطنيها ومستقبلها الاقتصادي والاجتماعي.
هذه المشكلة ليست جديدة أو عابرة، بل وجودية. يكفي النظر إلى المؤشرات الدولية لندرك أن تونس متخلفة عن ركب الاستدامة، ولنطرح معه نفس التساؤل الذي يدور منذ سنوات، وهو متى تلتفت الدولة بجدية إلى حجم هذا التلوث وتأثيراته الكارثية؟ هل ستتخذ إجراءات حقيقية تضع حدًا لمعاناة السكان وتحمي البيئة من المزيد من التدهور؟ كيف تجنب اقتصادها العليل نزيف خسائر التلوث؟
منذ عقود، طورت الدولة بعض المناطق لتجعلها مراكز صناعية كبيرة، لكنها أصبحت بؤرا لتراكم النفايات السامة، وانبعاث الغازات الملوثة، وتدهور الموارد الطبيعية، دون أن تُقابل ذلك سياسات بيئية صارمة أو رقابة فعالة. كل الحكومات تتجاهل حل هذه المشكلة أو التخفيف منها. التقارير الرسمية نفسها تعطينا فكرة عن التقاعس.
لا يمكن الحديث عن مسح للبصمة الكربونية أو تنمية أو جذب للاستثمار الأجنبي أو جودة الحياة أو تشغيل، وتونس تُغض الطرف، عمدا أو دون قصد، عن قضية مصيرية ومكلفة صحيا واقتصاديا واجتماعيا كهذه
أحد تقارير وكالة حماية المحيط التونسية، مثلا، أفاد بأن أكثر من 70 في المئة من المؤسسات والشركات الصناعية بالبلاد لا تلتزم فعليا بالشروط البيئية المفروضة، رغم وجود نصوص قانونية صارمة تنظم نشاطها. يرجع ذلك أساسا إلى ضعف الرقابة وغياب الردع، إضافة إلى غلبة منطق الربح السريع على الالتزام بالمسؤولية البيئية.
الأمر أسوأ بكثير على مستوى الصحة العامة، فالإحصاءات الرسمية تؤكد أن المناطق القريبة من الأنشطة الصناعية التي تتركز أغلبها في سواحل المتوسط تسجّل معدلات أعلى من الأمراض التنفسية والجلدية وأمراض القلب، ناهيك عن نسب إصابة بسرطانات الجهاز التنفسي والهضمي تفوق المعدلات العامة في البلاد.
قابس مثال صارخ على ما يمكن أن تفعله الصناعة غير المنضبطة ببيئة مدينة وسكانها. فمنذ السبعينات، شهدت المدينة توسعًا صناعيًا سريعًا شمل إنشاء المجمع الكيميائي التونسي المختص في الأسمدة والمواد الكيميائية. هذا المجمع، وفق تقارير محلية ودولية، ينفث قرابة 28 ألف طن من النفايات، من بينها مادة الفوسفوجيبس التي تحتوي على مواد مشعة وثقيلة مثل اليورانيوم والكادميوم، التي تؤثر بشكل مباشر على صحة الناس.
دراسة أعدّتها هيومن رايتس ووتش سنة 2022، ضمن العشرات من الدراسات الصادرة عن مؤسسات ومنظمات دولية أخرى، أشارت إلى أنّ جودة الهواء في قابس من بين الأسوأ في تونس، ما ينعكس على الوضع الصحي للسكان، حيث ازدادت معدلات الإصابة بالربو وأمراض السرطان والحساسية وغيرها من الأمراض المزمنة الأخرى.
إن ما يثير القلق أكثر هو أن هذا الوضع لا يقتصر على مدينة قابس. فالوضع نفسه متفش في عدة مناطق حيوية أخرى، خصوصًا في المدن الصناعية في صفاقس وسوسة ورادس وبنزرت، حيث تشكو المزارع القريبة منها والشواطئ ومناطق أخرى من التلوث الناتج عن معامل الإسمنت والبتروكيماويات التي تُصرّف نفاياتها السائلة في الجو أو في البحر.
لقد تجاوزت مستويات تلوث الهواء في هذه المناطق الحدود التي حددتها منظمة الصحة العالمية، حيث تتسبب الغازات السامة المنبعثة مثل ثاني أكسيد الكبريت والأمونيا في تفشي أمراض تنفسية مزمنة بين السكان، خصوصًا الأطفال وكبار السن. ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يتسبب ذلك في وفاة حوالي 6 آلاف شخص سنويا.

عند إلقاء نظرة على مؤشر التلوث لعام 2025 نجد أن خبراء منصة نومبيو، وهي قاعدة بيانات عالمية متخصصة في جمع وتحليل المعلومات، صنفوا تونس في المرتبة 37 عالميا من بين 113 بلدا بمعدل 70.1. هذا التصنيف الذي يعتمد على عوامل، أبرزها جودة الهواء وإدارة النفايات ومستويات التلوث المائي والضوضائي والبصري، يؤكد الوضع المتدهور الذي يفرض تحديات كبيرة على الدولة والمجتمع.
لا شك أن التلوث تترتب عليه خسائر اقتصادية مباشرة وغير مباشرة تؤثر على مختلف القطاعات، فبحسب البنك الدولي تخسر البلاد قرابة 2.7 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي جراء هذه المعضلة المزمنة، أي ما يعادل 820 مليون دولار، نتيجة التكاليف الصحية وتدهور الإنتاجية والأضرار البيئية التي تؤثر على القطاعات الحيوية مثل السياحة والزراعة والصيد البحري.
جهود الدولة تبقى خجولة في التصدي لهذا الخطر المتفاقم. فمشاريع المعالجة البيئية تبقى حبرًا على ورق، وغالبًا ما تُجمد أو تُؤجل بسبب نقص التمويل أو تعقيدات بيروقراطية. وحتى المبادرات التي تطلقها الوكالات الوطنية لحماية البيئة تفتقر إلى الاستمرارية والدعم السياسي والمالي.
مع أن تونس وقعت على العديد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية البيئة، منها اتفاق باريس للمناخ واتفاقيات بازل وروتردام بشأن النفايات الخطرة، إلا أن الفجوة بين الالتزامات الدولية والتطبيق المحلي ما تزال واسعة. ذلك يعكس خللاً هيكليًا في سياسات التنمية الصناعية التي لا تراعي الاستدامة البيئية، بل تقوم غالبًا على تسهيلات كبيرة للمستثمرين دون اشتراطات بيئية كافية.
المطلوب اليوم ليس مجرد إصلاح إداري أو قرارات مناسباتية لا يتم تطبيقها في الواقع، بل مراجعة جذرية للنموذج الصناعي برمّته، تضع صحة المواطن وسلامة البيئة على رأس الأولويات مع مزجها بالإرادة السياسية والتنفيذ الحكومي والإداري ووضع معايير صارمة لنقف بعدها على النتائج. عندها فقط يمكن القول إن تونس التفتت بالفعل إلى تلوثها الصناعي، بعد سنوات طويلة من التجاهل.