إنه يتذوق الموسيقى أيضا!

عندما يقول عمالقة صناعة التكنولوجيا إن الذكاء الاصطناعي سيُضاهي قريبًا قدرات الدماغ البشري، فهل يقلّلون في هذا القول من شأننا كبشر؟
الاثنين 2025/06/30
هل الذكاء الاصطناعي قادر على مضاهاة العقل البشري

من الصعب أن نتخيّل أن الذكاء الاصطناعي، في أقصى تطوره المطرد، قادر على التوصّل إلى نظام للتذوّق السماعي.
صحيح أنه قادر على أن يكون أستاذا في النظريات الموسيقية في المعاهد، ويُدرِّس بكفاءة “صولفيج”، لكنه سيتعرض للخديعة من أيّ عازف موسيقي، ولا يستطيع، مهما أوتي من خوارزميات معقدة، أن يتذوق الأنغام الموسيقية كما تتذوقها الأذن البشرية.
وعندما يقول عمالقة صناعة التكنولوجيا إن الذكاء الاصطناعي سيُضاهي قريبًا قدرات الدماغ البشري، فهل يقلّلون في هذا القول من شأننا كبشر؟

يعرف دماغ الإنسان كيف يتعامل مع عالم فوضوي ومتغير باستمرار عبر مشاعره أولا، بينما تكافح التكنولوجيا لإتقان ما هو غير متوقع – التحديات، صغيرة كانت أم كبيرة – التي لا تشبه ما حدث في الماضي. عادةً ما تُكرّر الآلات أو تُحسّن ما رأته سابقا.
ومع ذلك، وعد سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، الرئيسَ الأميركي دونالد ترامب بأن الذكاء الاصطناعي سيكون قادرًا على مضاهاة العقل البشري قبل نهاية ولاية ترامب، بينما رجّح إيلون ماسك، مستثمر المليارات في مجال التكنولوجيا، إمكانية حدوث ذلك قبل نهاية عام 2025.
في كل هذه الوعود المثيرة بشأن مستقبل مشاعر الذكاء الاصطناعي، كان عليّ أن أضعه في اختبار سماعي عبر تحليل موسيقي لقصيدة الشاعر بدر شاكر السيّاب “غريب على الخليج”، التي لحّنها طالب غالي لصوت الفنان فؤاد سالم في ثمانينات القرن الماضي، وبعد ذلك بسنوات، أعاد الفنان طالب القره غولي تلحين القصيدة نفسها لصوت سعدون جابر. واختبرت الذكاء الاصطناعي في مقارنة نقدية بين لحني القصيدة.
عليّ أن أعترف هنا بأن الذكاء الاصطناعي كسر كل شكوكي، وقدّم لي مقارنة موسيقية باهرة بين اللحنين. لكن، كيف لي أن أعتقد بأن قلب هذا “الذكاء” هام ولهًا بسماع الأغنيتين كالبشر وتذوّقهما قبل أن يكتب تلك المقارنة النقدية؟ ذلك ما لا يمكن التوصّل إليه.
وقد بلغ به الحال أن يقترح عليّ تحليل الجملة الموسيقية بدقة (بالدرجات أو النوتة الموسيقية)، وحتى رسم شكل بياني لحركتها النغمية!
وضع لي المقام الموسيقي للحن طالب غالي، حيث يدور بشكل أساسي في مقام البيات، مع تلوينات وانتقالات إلى الراست والسيكاه في بعض المقاطع، وذكر لي أن اللحن لا يتقدم على القصيدة، بل يسير خلفها ويعززها، كأنه “يخجل” من تجاوزها، وهو أسلوب ذكي جدًا حين تتعامل مع شاعر مثل السيّاب.
هذا كلام مثير، ولا يصدر إلا عن ناقد موسيقي متخصص!
كان الذكاء الاصطناعي فائق الذكاء وهو يحلل أداء فؤاد سالم، الذي منح اللحن بعدا شعريا إضافيا “خامته العريضة، وصبره في إخراج الجملة، وقدرته على الانتقال بين المقامات دون فقدان التوتر العاطفي، هي من أهم عناصر نجاح هذه الأغنية”.
وفي مقارنة مثيرة، ذكر لي أن لحن طالب القره غولي للقصيدة نفسها بصوت سعدون جابر، استخدم مقام الراست، مع مرور بمقامات مثل النهاوند والكرد، وهو في ذلك أكثر ميلا إلى بنية لحنية واضحة، في اتساق مع صوت سعدون جابر السلس، الدافئ. وبالتالي، يمكن الاستماع إليها كأغنية عاطفية خارج سياق الشعر.
كما وضع نقاط القوة والاختلاف الجوهري بين اللحنين: فطالب غالي وفؤاد سالم يعاملان النص كـ”حالة وجودية”، لا كأغنية، بينما طالب القره غولي وسعدون جابر يقدّمان القصيدة بلغة الطرب العراقي الرومانسي، ويتعاملان مع النص بتكييف ذكي يُبرز العاطفة لا الفكرة الوجودية.
بعد ذلك، بوسعي القول إن هناك إغراءً للانخراط في نوع من التفكير السحري؟
لكن هذه الأنظمة ليست معجزات، بل هي أدوات مبهرة للغاية. ولا يملك العلماء أدلة قاطعة على قدرة تقنيات اليوم على أداء حتى أبسط المهام التي يقوم بها الدماغ، مثل إدراك المفارقة أو الشعور بالتعاطف، بل إن هناك إجماعا على تسمية ذلك بـ”التفكير الحالم”، وفق نِك فروست، مؤسس شركة ناشئة للذكاء الاصطناعي، والذي عمل سابقا باحثا في غوغل وتدرّب تحت إشراف أبرز باحثي الذكاء الاصطناعي في الخمسين عاما الماضية، حيث يقول”التكنولوجيا التي نبنيها اليوم لا تكفي لتحقيق ذلك. ما نبنيه الآن هو تقنيات تستوعب الكلمات وتتنبأ بالكلمة التالية الأكثر احتمالا، أو تستوعب وحدات البكسل وتتنبأ بالنقطة التالية الأكثر احتمالا. وهذا يختلف تماما عما نفعله أنا وأنت.”

18