إيران المأزومة تنتهج سياسة الودّ الموارب حيال السعودية

لم تبدأ الحرب بانهمار الصواريخ الإسرائيلية على المنشآت الحيوية الإيرانية، وإنما اندلعت شرارتها في الساعة التي عاد فيها من طهران وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان في شهر أبريل الماضي، وهو يحمل رسالة الرفض من المرشد الإيراني علي خامنئي للنصيحة الذهبية التي قدّمها الملك سلمان بالموافقة على توقيع اتفاق نووي مع الولايات المتحدة.
لا يمكن قياس المشاعر السياسية الإيرانية تجاه السعودية من خلال الشكر الدبلوماسي الحار الذي قدّمه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على مشاعره النبيلة تجاه إيران والشعب الإيراني، مقدّرًا للسعودية موقفها في رفض العدوان الإسرائيلي وإدانته.
فهناك أكثر بكثير من هذه الدبلوماسية المواربة التي باتت تنتهجها إيران حيال السعودية منذ اتفاق بكين مع الرياض عام 2023، وتزايد مفعولها بعد الضربات الإسرائيلية على إيران.
قبل يوم واحد من الهجوم الإسرائيلي على إيران، كان وزير الدفاع الإيراني عزيز نصير زاده يهدّد دول المنطقة، بما فيها السعودية، قائلاً “إن فشلت المفاوضات النووية واندلع صراع مع الولايات المتحدة، فإن إيران ستضرب القواعد الأميركية في المنطقة.” وقال نصير زاده “إذا فُرض علينا الصراع… فجميع القواعد الأميركية في نطاقنا، وسنستهدفها بقوة في الدول المضيفة.”

فراس مقصد: إذا استطاعت إسرائيل أو واشنطن القضاء على تهديد دول الخليج عسكريًا، فلا أعتقد أن القادة العرب سيذرفون الدموع على إيران
وفي هذا التصريح يعبّر نصير زاده عن جوهر سياسة إيران تجاه دول الإقليم، وهو ما أكّده لاحقًا وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، بعد يوم واحد من الضربة الإسرائيلية، قائلاً إن إيران لا تريد امتداد الصراع مع إسرائيل إلى الدول المجاورة، “إلا إذا أُجبرت على ذلك.” متى ستُجبر على ذلك؟ دعونا نترقّب.
ولو عدنا إلى الوراء شهرين تقريبا، لوجدنا أن المرشد الإيراني علي خامنئي قد رفض الأخذ بـ”نصيحة ذهبية” قدّمها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، عندما اختار ابنه وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان لأن ينقلها بوضوح إلى المرشد خامنئي.
جوهر الرسالة الصريحة للملك سلمان إلى المسؤولين الإيرانيين كان أن يقبلوا بعرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتفاوض بجدية على اتفاق نووي، لأنه يمثّل السبيل لتجنّب خطر الحرب مع إسرائيل.وكان
الملك سلمان وابنه ولي العهد الأمير محمد يساورهما القلق من احتمال ازدياد عدم الاستقرار في المنطقة، لذلك اختارا الأمير خالد، “في دلالة شخصية”، لتحذير المرشد خامنئي، بحضور الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، ورئيس أركان القوات المسلحة محمد باقري، ووزير الخارجية عباس عراقجي، في الاجتماع المغلق الذي عقد في السابع عشر من أبريل في المجمع الرئاسي بطهران.
لكن الرفض الإيراني للأخذ بالنصيحة الذهبية أوصل المنطقة إلى اللحظة التي يسودها غموض كبير. إنها الحرب الكبرى التي كانت المنطقة تخشاها وتترقّبها منذ سنوات.
ماذا يعني الرفض الإيراني للنصيحة السعودية، غير أن العقلية الإيرانية لم ولن تتمكّن من الوثوق بالسعودية؟ وهو جوهر كامن في الإستراتيجية الإيرانية، يفسّره ولي نصر، الأكاديمي الأميركي من أصول إيرانية الذي عمل مستشارًا لصانعي السياسات الأميركيين، في كتابه الذي صدر قبل أسابيع من الهجوم الإسرائيلي على إيران بعنوان “إستراتيجية إيران الكبرى”، حين قال “المرونة التكتيكية هي السمة المميزة للإستراتيجية الإيرانية.
لقد أثبتت طهران براعتها في السعي وراء الانفتاح الدبلوماسي، والتقارب الإقليمي، واستغلال الفرص الواعدة، بالإضافة إلى ضبط النفس المدروس: جميعها أدوات تُعزّز عقلية الحصار الراسخة. وبالتالي، فإن المصالحة المفاجئة بين إيران والسعودية في عام 2023 لا تُقدَّم على أنها تحوّل إستراتيجي،
بل جهد مدروس لكسب مساحة للتنفس دون التخلي عن منطق المقاومة وسياسة الهيمنة على المنطقة عبر أذرعها من الميليشيات.”

عزيز نصير زاده: إن فشلت المفاوضات النووية واندلع صراع مع الولايات المتحدة، فإن إيران ستضرب القواعد الأميركية في المنطقة
وهكذا يكشف الموقف الإيراني الموارب من دول المنطقة بعد الضربة الإسرائيلية أن الماضي يغدق علينا بدروسه المفيدة، إلا أن الثقة بالمستقبل ليست درسًا سياسيًا، بل أقرب إلى الأمنيات الشخصية، عندما يتعلّق الأمر بسياسة إيران تحديدًا تجاه دول المنطقة.
ورغم إنشاء القواعد الخليجية في العقود الأخيرة بهدف الردع تجاه إيران، إلا أن هناك مخاوف من أن طهران قد تخطئ في حساباتها باستهداف هذه القواعد، ما يؤدي إلى توسيع الصراع من خلال جرّ الولايات المتحدة إليه.
وتقول الباحثة في معهد “تشاتام هاوس” البريطاني، صنم وكيل، إن دول الخليج “تواجه مخاطر حقيقية ويجب أن تلعب أوراقها بحذر،” مشيرة إلى أن إضعاف الجمهورية الإسلامية، التي كانت هذه الدول العربية على خلاف معها منذ فترة طويلة، ليس بالضرورة أمرًا مزعجًا بالنسبة إليها.
ومع ذلك، هناك إفراط في الثقة السياسية بمستقبل العلاقة الإقليمية لدول المنطقة مع إيران، من دون أن يمتلك أولئك الذين يمارسون غسيل السمعة السياسي لطهران أي مؤشرات واقعية تدفعهم للدفاع عن ذلك.
السياسيون لا يعبّرون عن أمنياتهم، بينما يتحدثون عن المستقبل الآمن بعمومية مطلقة، بذريعة التغيرات الإقليمية، ويستندون إلى مشاريع اقتصادية ستعكس الرخاء على دول المنطقة، بما فيها إيران، وهذا يتطلب تهدئة سياسية وتوافقًا مشتركًا. لكن، على ماذا يتم التوافق؟
وقبل اتفاق بكين بين السعودية وإيران ببضعة أشهر، حدّثني زميل إعلامي سعودي ممن يديرون صناعة الخطاب في بلاده، ومقرّب إلى حد ما من مركز اتخاذ القرار، أن إستراتيجية “قُم أم القرى” الإيرانية ملفّ مفتوح بشكل دائم على طاولة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، كلما تعلّق الأمر بالشأن الإيراني. هذا الملف لا يغيب عن أعين السعوديين لإدراك كبار المسؤولين الأمنيين هناك بأن إيران لا يمكن أن تتراجع عن تلك الإستراتيجية، الساعية إلى نقل مركز العالم الإسلامي من مكة المكرمة إلى مدينة قُم الإيرانية.
طهران أثبتت براعتها في السعي وراء الانفتاح الدبلوماسي، والتقارب الإقليمي، واستغلال الفرص الواعدة
وحوار الأمير محمد بن سلمان مع بريت باير، كبير المذيعين السياسيين في قناة “فوكس نيوز” الأميركية، لم يقدّم الإجابات الكافية، على أهمية ما قاله، بشأن مستقبل العلاقة مع إيران. فهناك أكثر من السلاح النووي يمثّل تهديدًا وجوديًا للسعودية من قبل إيران.
وهناك حزمة من الأسئلة تنتظر الإجابات، وعلينا كجامعي مؤشرات سياسية أن نبحث عنها، لا أن نكتفي بالتعبير عن أمنياتنا. ومع أنه لا يوجد عاقل لا يرحّب بالعلاقات السليمة بين البلدان، فإننا في الوقت نفسه نبحث عن “عاقل” يعبّر لنا عن ثقته بأن إيران قد تخلّت عن مشروعها في الهيمنة على المنطقة، قبل تقديمها كدولة محبة للسلام والرفاهية لجيرانها.
ويقول فراس مقصد، المدير الإداري لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة أوراسيا، وهي منظمة لتحليل المخاطر مقرها نيويورك، “إذا استطاعت إسرائيل أو الولايات المتحدة القضاء على التهديد الموجّه لدول الخليج عسكريًا، فلا أعتقد أن القادة العرب سيذرفون الدموع.”
وأضاف في تصريح لصحيفة نيويورك تايمز “القلق الأكبر هو أن العمل لم يُنجز بشكل كامل، ما يعرّضهم للانتقام، ويقوّض مشاريعهم التنموية الوطنية في هذه العملية.”