أيّ نوع من الناس نريد أن نكون؟

على مرّ التاريخ، بحث الإنسان عن كلمات يعبّر بها عن نفسه، وكتب قصته الخاصة عبر أسئلة: من نحن؟ وأيّ نوع من الناس نريد أن نكون؟
الاثنين 2025/06/23
بدأنا نفقد تعلّقنا بمعاني الكلمات والجمل

عندما كتبت الروائية الأميركية نيكول كراوس روايتها “تاريخ الحب”، اكتشف القراء أن هناك المزيد من الأسئلة التي ينبغي عليهم إطلاقها، على نفس المستوى الذي دفع دار نشر إلى إبرام عقد معها لكتابة عملين آخرين، بقيمة أربعة ملايين دولار!

ماذا يعني هذا غير أننا بحاجة إلى إعادة اكتشاف أنفسنا من خلال القراءة والكتابة، لا من خلال أيّ شيء آخر متعلق بالعصر الرقمي؟

آخر الأسئلة التي طرحتها هذه الروائية، التي وُلدت كفتاة محظوظة لأنها ابنة مهندس وطبيبة، وتنقّلت معهما في بلدان بنيت على إنجازات وأنقاض الحضارات. وهو ما جعلها تدرك المنحنى الطويل للتاريخ الذي شهد صعود وسقوط كل شيء: الديمقراطيات والطغاة، الحرب والسلام، ما كان يُخشى منه، وما كان محبوبا ومقدّرا.

ومع مفترق الطرق الذي وصل إليه الناس في التاريخ، ظلّوا يتجادلون حول أي طريق يسلكون.

ذلك ما جعل كراوس وجعلنا معها ندرك اليوم أننا جميعا نقف عند مفترق طريق آخر. وأن الاتجاه الذي سنختاره سيحدّد ليس فقط مستقبل أطفالنا بل مستقبل ما يعنيه أن نكون بشرا، والظروف التي ستتكشف في ظلّها الحياة الإنسانية.

تتساءل هذه الكاتبة في آخر مقال لها: هل ستظل القراءة والكتابة أساسا للثقافة؟ وهل ستحل مفاهيم وخوارزميات الذكاء الاصطناعي محل حرية الذات؟ وهل سنسيطر على الطبيعة وندمّرها، أم سننقذها ونحميها؟

نقف الآن أمام هذه الأسئلة، وآمل أن نتوقّف. ففي سكون هذا التوقّف، تخاطبنا دروس التاريخ أحيانا.

سنجد الكثير جدا يفكرون اليوم بهذه الطريقة؛ يكتبون كما يقرأون، ويؤمنون بأننا في عالم الكتابة نكون أحرارا في التخيّل والإبداع، وتغيير عقولنا، والسفر عبر الزمان والمكان، والشعور بكامل اتساع ذواتنا، وتجربتها، والقيام بما لا يُعتقد أنه ممكن في أيّ عالم أو وسيط أو بُعد آخر.

تقول كراوس “عبر الكتابة، ندخل إلى عقل الآخر. نشعر بمعنى العيش داخل الآخر. وفي هذه العملية، نتوسّع خارج حدود الذات، إلى مجالات أوسع من التفاهم المتبادل والتعاطف. وهكذا، فإنّ الأدب ديمقراطيٌّ في جوهره، وللوصول إلى حرياته، يجب أن نتعلّم قراءة الأدب وتقديره والتفاعل معه.”

لماذا أقتبس هذا الكلام؟ لأنني، مثل كثيرين غيري، أشعر أن القراءة والكتابة مهددتان وتقفان عند مفترق طرق. ومن بين أمور ومعايير كثيرة على المحك، يقع مستقبل القراءة والكتابة، وكل الحرية الواسعة التي أتاحتاها لنا.

العلامة التجارية التي منحها العصر الرقمي للإنسان اليوم للتعبير عن نفسه، جعلته يسحق مفهوم اللغة بوصفها المعبر البلاغي للقراءة والكتابة، ويعبّر عن نفسه على منصته الخاصة كما يتكلم! يسخر ويتهكم ويمارس أنواعا مشينة من الابتذال والاحتقار، من دون أيّ احترام لمفهوم اللغة وبلاغتها السامية في الكتابة.

عصر الهواتف الذكية جعلنا نشهد انهيار القدرة على القراءة والتفاعل مع الكتب. ليس فقط لدى الأطفال، الذين نشأوا في بيئة الهواتف المحمولة وكانوا فئران تجارب دون وعي منهم، بل بيننا جميعاً كبشر. وما يمكن أن نترقبه من الذكاء الاصطناعي أكثر فظاعة، عندما لا يكون قادرا على تحقيق التوازن بين الإبداع والتقييد؛ فهو إما أن يبالغ في تضمين الحقائق أو الأكاذيب، أو يدعم قرارات أخلاقية ولا أخلاقية على حدّ سواء، من دون مبالاة بالعواقب.

لم نفقد قدرتنا على التركيز على فكّ الرموز المدهشة في اللغة المكتوبة فقط، بل بدأنا نفقد تعلّقنا بمعاني الكلمات والجمل، التي كنا نثق بها يوما ما لتحمل العبء الثمين في التعبير عن هويتنا، لأنفسنا وللآخرين.

على مرّ التاريخ، بحث الإنسان عن كلمات يعبّر بها عن نفسه، وكتب قصته الخاصة عبر أسئلة: من نحن؟ وأيّ نوع من الناس نريد أن نكون؟

واليوم، من دون أن يكون هذا الإنسان قارئا وكاتبا، فليس لديه أيّ أمل في الارتقاء بنفسه.

18