كيف تُكافح تونس السطحية الإعلامية

السطحية لم تعد ظاهرة هامشية بل تحولت إلى قاعدة، والبرامج الحوارية التي يفترض أن تُعمّق النقاش السياسي والاقتصادي تحوّلت إلى منابر لصراخ متبادل ونقاشات عبثية حول قضايا مفتعلة.
الخميس 2025/06/19
الإعلام المنكوب

لا يخفى على أحد أن المشهد الإعلامي في تونس اليوم يعاني من حالة مزمنة من السطحية، باتت تؤثر بشكل مباشر في وعي المتلقين ونضج النقاش العام. فبدل أن يكون الإعلام سلطة تراقب وتحلل وتوجه النقاش نحو القضايا المصيرية، تحوّل في الغالب إلى فضاء تغلب عليه الإثارة الرخيصة والجدل المفتعل والانشغال بالتفاصيل الهامشية على حساب القضايا البنيوية.

السؤال الملحّ الذي يُطرح هنا وفي الواقع طرحته قبل سنوات: كيف يمكن مكافحة السطحية في الإعلام والتي صارت جزءًا من الأزمة العامة التي تمر بها البلاد حتى نُحلّ بدلا عنها إعلاما يحترم العقول؟

لم يعد مقبولا، بعد 14 سنة من الانتقال السياسي أو الثورة أو تغيير النظام – سمّوه ما شئتم – أن يبقى الإعلام التونسي حبيس التفاهة والارتجال والتكرار الممل لنفس الخطاب المبتذل. ما نراه يوميًا على الشاشات ونقرأه في عدد كبير من المنصات الإلكترونية لا يُعبّر عن واقع إعلام يعيش في مرحلة تحرر، بل عن أزمة مركّبة باتت تهدد دوره في بناء وعي جماعي ناضج ومسؤول.

◄ مكافحة السطحية أيها الإعلاميون ليست شعارًا يردد في المؤتمرات والندوات، بل فعل مقاومة يومي. ليس لدينا جميعا نفس المواقف أو الأفكار

في وقت تحتاج فيه تونس إلى إعلام عقلاني وتحليلي ومتطور ويُعيد ترتيب الأولويات، نجد أنفسنا أمام محتوى فقير معرفيًا، محكوم بمنطق الإثارة، توجّهه مؤشرات التفاعل اللحظي بدل اعتبارات المصلحة العامة.

النتائج أمامكم تتحدث عن نفسها فلا داعي للقيام باستطلاعات رأي أو بذل مجهود للتوصل إلى الاستنتاجات.

السطحية لم تعد ظاهرة هامشية، بل تحولت إلى قاعدة. البرامج الحوارية التي يفترض أن تُعمّق النقاش السياسي والاقتصادي، تحوّلت إلى منابر لصراخ متبادل، ونقاشات عبثية حول قضايا مفتعلة. تقارير الأخبار تُعيد صياغة المحتوى ذاته بأساليب ركيكة، دون خلفية تحليلية أو مساءلة حقيقية.

الإعلام الثقافي مختف، وتم استبداله بفقرات ترفيهية تُفرغ الثقافة من مضمونها. حتى الصحافة المكتوبة، التي كانت مدرسة للمقالات الرصينة والتحقيقات المعمّقة، فقدت مكانتها أمام “صحافة الإكسبريس” تلهث خلف التريندات وعدد المشاهدات.

مواجهة هذه النمطية ليست مسؤولية أخلاقية، بل ضرورة وطنية. الإعلام في الدول التي تدّعي أنها ديمقراطية ليس مرآة للواقع، بل هو شريك في صياغته ويؤطر النقاش العام ويوجّه انتباه المتلقي نحو القضايا الجوهرية.

◄ كيف يمكن مكافحة السطحية في الإعلام والتي صارت جزءًا من الأزمة العامة التي تمر بها البلاد

في الحالة التونسية، الإعلام يُعيد إنتاج التشتت والانقسام، ويتماهى مع خطابات الإلهاء، ويغرق في تفاصيل ثانوية تخفي الأسئلة الكبرى أهمها: من المسؤول عن كل هذه العبثية في القطاع؟

لا بد من الاعتراف بأن السطحية هي نتيجة لتدهور بنيوي في منظومة الإعلام برمتها. فكيف ننتظر من صحافيين يعملون دون ضمانات مهنية أو حماية قانونية، أن يُنتجوا محتوى نوعيًا؟ كيف نحمّلهم وحدهم مسؤولية تردّي الخطاب، في حين أن المؤسسات التي يعملون فيها تخضع لاعتبارات تجارية أو سياسية، ولا تملك الحد الأدنى من الاستقلال التحريري؟ حتى الإعلام العمومي تشعر أنه في جزيرة معزولة.

من الصعب إذا لم نقل من المستحيل بناء إعلام جاد أو متنوع وفق ضوابط دون إصلاح جذري في بنية التأهيل والتدريب، وضمان حقوق الأطراف الفاعلة في هذه الحلقة.

المعركة لا يمكن أن تنجح دون مراجعة جذرية لسياسات الدولة تجاه الإعلام. لقد فشلت الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011 في صياغة رؤية إستراتيجية واضحة لدور الإعلام في ما يسمى بـ”المسار الديمقراطي” وتميّزت العلاقة بين الدولة ووسائل الإعلام بالضبابية، تارة بالتدخل الناعم، وتارة بالإقصاء أو الترهيب.

◄ في وقت تحتاج فيه تونس إلى إعلام عقلاني وتحليلي ومتطور ويُعيد ترتيب الأولويات، نجد أنفسنا أمام محتوى فقير معرفيًا، محكوم بمنطق الإثارة، توجّهه مؤشرات التفاعل اللحظي

ببساطة هناك جهات مولت “حرية الإعلام” في تونس وأقصت دور الدولة تماما. بعبارة أوضح أن غياب إطار قانوني عام نزيه ينظّم المشهد ويكافئ الجودة والمهنية ويضمن التعددية والاستقلال، هو ما جعل المؤسسات الإعلامية فريسة السطحية وفاقدة للثقة الشعبية وغارقة في الضحالة.

الجمهور نفسه غذى هذا المشهد. المتلقي التونسي، بفعل غياب التربية الإعلامية، أصبح جزءًا من آلية إنتاج السطحية، حيث تتصدّر الموضوعات التافهة نسب المشاهدة، بينما يغيب المحتوى التحليلي عن دوائر التفاعل. لذلك، لا بد من تعزيز ثقافة النقد الإعلامي البنّاء وليس التافه الممزوج بالميوعة لدى المواطنين، خاصة فئة الشباب، عبر إدراج مواد خاصة بالتربية الإعلامية في البرامج التعليمية.

دعوكم من تنظيم حملات التوعية التي تسلط الضوء على خطورة الإعلام غير المهني في تشكيل الرأي العام، لأنه لا فائدة ترجى منها. فالتجارب تخبرنا بذلك.

إذا أردتم الإصلاح لا تنسوا دور النخب الأكاديمية والثقافية، التي انسحبت من الحضور الإعلامي، إما بسبب الإقصاء المنهجي، أو بسبب فقدان الثقة في جدوى المشاركة. استعادة العمق تبدأ بإعادة المثقفين والباحثين إلى الواجهة، ليس فقط كضيوف، بل كمشاركين في صياغة خطاب إعلامي نقدي، يعيد الاعتبار للمعرفة، ويحرر النقاش من سطوة الجهل المنظّم.

مكافحة السطحية أيها الإعلاميون ليست شعارًا يردد في المؤتمرات والندوات، بل فعل مقاومة يومي. ليس لدينا جميعا نفس المواقف أو الأفكار. الاختلاف هذا هو الطبيعي ولا يمكن إنكاره، لكن لماذا لا تتفقون على أن الوضع يتطلب إعادة تعريف دور الإعلام وتطوير المنظومة القانونية.

هذه مسؤولية مشتركة بين الصحافيين والمؤسسات والنقابات والدولة والمجتمع المدني، ولكنها قبل كل شيء مسؤولية وعي وضمير. فإما أن نرتقي بالخطاب العام، أو مواصلة الغرق في مستنقع الرداءة، ونترك المجال مفتوحًا أمام من يريدون صناعة شعب بلا ذاكرة، وبلا قدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم.

حان إعلان حالة الطوارئ في قطاعنا الإعلامي المنكوب.

8