مبنى بيروتي يأخذ شكل سفينة شاهدة وضحية

"واجهات" مشروع فني يذكّر اللبنانيين بفاجعة المرفأ.
الأربعاء 2021/08/18
مقاطع بصرية متعدّدة لنص وجداني واحد متجانس

بعد مضي عام على انفجار مرفأ بيروت، أقدمت مجموعة من الفنانين اللبنانيين والمقيمين على إحياء ذكرى الفاجعة من خلال الفن المعلّق على واجهة مبنى بولس فياض المتضرّر بدوره من الانفجار، وذلك عبر مشروع فني يُعيد الحياة إلى المبنى العريق ومن خلاله إلى بعض من لبنان الجريح.

بيروت - يبدو أن لهيب شهر أغسطس يرفض أن يُغادر لبنان هذا العام دون أن يحتضن حرائق أخرى غير التفجير الوحشي الذي حصل في مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس من السنة الماضية، ليكون هذا العام مرتعا لحرائق الأحراش التي خمدت لأنها رُدمت.

وللانفجار المُرعب حدث لاحق حصل منذ أيام في منطقة عكار الشمالية يُظهر مدى عمق الجحيم الذي أخذت إليه الطبقات الحاكمة السابقة والحالية الشعب اللبناني المأزوم على الدوام.

وفي وسط هذا الجحيم نبت مشروع فني كزهرة من نار آخذة شكل مبنى، أخذ بدوره هيئة سفينة.

أسئلة بلا إجابات

على امتداد شهر أغسطس وحتى نهايته القريبة تشهد العاصمة اللبنانية بيروت نموّ مشروع فني بعنوان “واجهات” بحجم مبنى تاريخي يمكن رؤيته من الجهات الأربع بوضوح، وكان قد شيده بولس فياض سنة 1930 على بعد مئة متر من المرفأ ويقع ما بين الحوض الأول والثاني.

وهذا المبنى، الذي يضم أكثر من خمسة وستين مكتبا، تعرّض لأضرار كبيرة عند وقوع الانفجار الذي دمّر “قلب” المدينة بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.

وبعد مرور سنة كاملة على المأساة، وعدم حصول القائمين على المبنى أي مساعدة مالية لأجل الترميم ولا حتى على أي اهتمام معنوي/ رسمي، أراد أصحاب المبنى التعبير “بكل كرامة وقوة عن السخط والغضب وقلة الفهم والحزن والتضامن مع جميع ضحايا هذه المأساة، وخاصة المطالبة بالمساءلة”. ولم يرد هؤلاء إقامة افتتاح أو ضجة إعلامية احتراما لأرواح الشهداء/ الضحايا وكل المتضرّرين.

الأعمال تطرح أسئلة دون أن تنتظر إجابة عنها، حيث أنه وبعد مرور عام على الانفجار لم يتغير شيء

هذا المشروع الفني أطلق عليه اسم “واجهات” لأنه خصّص الواجهات الثلاث الكبيرة للمبنى المطلة على المرفأ بأعمال فنية لخمسة عشر فنانا وفنانة يقطنون في بيروت ومن الذين تضرّروا بشكل أو بآخر من الانفجار، منهم فنانة تونسية وفنان سوري الجنسية.

تتراوح أحجام الأعمال التي أخذت شكل يافطات طولية من أعلى المبنى حتى أسفله بين عشرة واثني عشرة مترا، وستُعرض طوال شهر أغسطس الجاري بين شبابيك الموظفين في المبنى الذين لم يكفّوا يوما عن العمل فيه.

الفنانون المشاركون هم راشد بحصلي، داليا بحصلي، داليا بعاصيري، ليليا بن بلايد، إيلي بورجيلي، جوزيف حرب، سمعان خوّام، علي علوش، يوسف عون، سامي الكور، عماد فخري، أحمد غدار، ليلى جبر، فادي الشّمعة وهنيبعل سروجي.

حقّق هؤلاء الفنانين الأعمال من وحي المناسبة كلّ وفق أسلوبه الفني الخاص، ولم يتلقوا أية تعليمات من الجهات المُعدّة والمموّلة كما حصل ويحصل مع عدد من الفنانين الآخرين عند تحقيق أعمال تناسب بأفكارها جهات رسمية محددة والهدف الحقيقي منها هو تبييض وجوه سياسيين عبر إرساء تعاطف مزيف مع المصابين والمتضرّرين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

الشرط الوحيد الذي كان على الفنانين المشاركين في مشروع “واجهات” أن يلتزموا به هو أن تكون الأعمال خالية من السباب وبعيدة عن المواقف السياسية.

دامت المثابرة على تحقيق هذا المشروع وانتقاء الفنانين وتنفيذهم للأعمال ما يقارب ثمانية أشهر، بعض الفنانين نفّذوا أعمالهم في مراسمهم الخاصة، أما البعض الآخر فأمّن له أصحاب المبنى غرفا فيه كي يعملوا بحرية وفي الوقت الذي يرتأونه، ما عدا خلال الليل بسبب انقطاع الكهرباء.

وجاءت الأعمال في معظمها تطرح أسئلة دون أن ترجو إجابة ولا غرابة في ذلك، إذ أنه وبعد مرور سنة على الوعود الواهية بالتحقيق وإقرار العدالة وما إلى ذلك لم يحدث أي تقدّم يُذكر، بل عقب الانفجار انفجار آخر جديد.

ونذكر من الأسئلة التي طرحتها الأعمال تلك اللوحة التي قدّمها فادي الشمعة وحملت اسم “تراكم” ويكتب الفنان في البيان المرفق لها هذا السؤال السوداوي والساخر “بماذا نشعرُ الآن؟” ويجيب، دون أن يجيب فعلا، بأنه لا يملك إلاّ ألوانه وريشته، وكل أسلوب أو طريقة أخرى لمواجهة ما حدث ويحدث بات بلا جدوى.

أما راشد وداليا بحصلي فيملكان سؤالا يتضمنه سؤال آخر، فيقولان “يمامة السلام هي ما بقي من شعب قضى عمره مناضلا لكي يحمي ويقوم ببلد أصبح مقعدا الآن. هل سيبقونه على قيد الحياة؟”.

جرح جماعي

Thumbnail

ساهم في إعداد “واجهات” إضافة إلى أصحاب المبنى فريق صالة “جانين ربيز” الفنية المتمرّس، وبإشراف نادين مجدلاني بكداش العريقة في المجال الفني وصاحبة الدور الكبير في تكريس وجه لبنان الثقافي بداية بفترة الخمسينات على يد والدتها جانين ربيز وحتى الآن.

وساهم أيضا في تحقيق المشروع “مجموعة شركات الجزائري”، و”مجموعة دومتكس”، وأسرة حليم بولس فياض، ومن الداعمين أيضا: حبيب دبس و”كولورتيك” و”وبرانت ووركس”، حيث قدّم بعضهم اليافطات التي تصلح لتلقي كافة أنواع الطلاء ومنهم من مدّ الفنانين بالألوان والأدوات الفنية المطلوبة ومنهم من ساهم في التحقيق الطباعي للأعمال.

وأعلن أصحاب المشروع أن الهدف منه هو “إحياء ذكرى جماعية ووجدانية في آن واحد، واستعادة لهذه المأساة الرهيبة التي دمّرت وأطاحت حياة أفراد وعائلات وأحياء ومدينة وبلد بأكمله، كما يؤكّد بطريقته على أساليب الصمود في وجه تدمير المدينة وناسها وتراثها وتفاصيلها”.

وكل من نظر إلى هذا المبنى عن بعد سيرى أنه أشبه بسفينة قذفها الانفجار و”رست” بأعجوبة على اليابسة لتأخذ شكل مبنى أشرعته طويلة وملونة وعديدة وظاهرة من ثلاثة جوانب.

سفينة/ مبنى تجاهر بنبل وصدق حتى آخر شهر أغسطس الحالي بالجرح العميق الذي أصاب ليس فقط بيروت، ولكن لبنان كله وتؤكّد على ضرورة المساءلة وتحريك أشرعة العدالة برياح التحقيق والعقاب.

كل فنان قدّم نصه الفني بأسلوبه الخاص الصادر من عمق التجربة والشعور بالفجيعة. ولكن عندما عُلّقت هذه الأعمال إلى جانب بعضها البعض أصبحت وكأنها مقاطع وجمل وجدانية من نص واحد ومتجانس.

ومن هؤلاء الفنانين الذين شاركوا في هذا المشروع نذكر الشاعر والفنان التشكيلي السوري – اللبناني سمعان خوّام الذي واكب عمله الفني بقصيدة له أسدلها كشاش أبيض ولطيف وشفاف على الجرح الجماعي، يقول فيها “هنالك في الرّكود/ حيثُ ظلُّك يتأرجحُ في كلّ الاتجاهات/ هنالك عند النبع/ حين يتساوى القاتلُ والضحيّة/ كلاهُما ضيفٌ على المائدة/ هنالك/ قلبك هو الوليمة”.

فن معلق على واجهات تسرد حكايات موغلة في الحزن
فن معلق على واجهات تسرد حكايات موغلة في الحزن

 

16