التشكيلية هبة زقوت والعرس الفلسطيني الخارج من الحصار

رحلت الفنانة وبقي فنها ليعبر عنها وعن نساء فلسطين.
الأربعاء 2023/10/25
فنانة وقفت تحت ظل شجرتها الملون سنوات وهي ترسم وتحلم

غادرتنا الفنانة الفلسطينية هبة زقوت تاركة وراءها لوحات فلسطينية الهوية، لطالما حلمت بأن تكون صوتها وصورتها للعالم الخارجي، وكذلك صوت بنات جلدتها وصورة فلسطين التي لم تعرف أغلب مدنها جراء الاحتلال. فنانة عاشت ورحلت وهي تنثر الأمل وتصور الفرح رغم الألم.

الفنانة التشكيلية الغزاوية هبة زقوت وقفت تحت ظل شجرتها الملون سنوات عديدة وهي ترسم وتحلم. صنعت من الظل أجنحة ورقية لتشارك بأعمالها الفنية في معارض دولية. بالرغم من ذلك جلّ ما أرادته هو أن تنتشر أعمالها في كل أجزاء وطنها فلسطين مُقطّع الأوصال.

بالاطلاع على إحدى المقالات حولها عرفنا أنها منذ فترة قليلة، أي قبيل الحرب على غزة كانت تسعى لتعرض لوحاتها خارج غزة. يبدو أن حلمها تحقق اليوم، ولكن من خلال حدث مأساوي أغمض عينيها الواسعتين إلى الأبد ليفتح معبرا أثيريا مُخضبا بأزهار شقائق النعمان مشت عليه النساء في لوحاتها بأثوابهن الفلسطينية التقليدية إلى خارج غزة، وبكل أمان، إلى العالم المفتوح، والأهم من ذلك بالنسبة للفنانة: إلى كل مدينة وبلدة في فلسطين.

أما كيف حدث ذلك تماما بهذه السرعة وبهذه القوة في الانتشار فبالاستشهاد. أكره أن أكتب عن فنان أو فنانة لأنه غادر هذا العالم، لاسيما إذا لم أكتب عنه من قبل. أمر لم أقم به إلا نادرا وتحت الطلب. لكن الظروف التي تحيط بمغادرة هبة زقوت إلى رحمة ربها هي أقوى من عدم رغبتي في الكتابة. نعى فنانون وناشطون الرسامة هبة زقوت، التي انضمت هي وأطفالها إلى نحو ألفي شهيد ارتقوا منذ العدوان الوحشي على قطاع غزة، وذلك في الثالث عشر من أكتوبر الجاري عن عمر يناهز 39 سنة.

◙ فن يحلم بالمعجزات
◙ فن يحلم بالمعجزات

بالطبع، الطبيعة البشرية تحتم أن كل من تأثر بهذا الخبر، إن كان يعرف الفنانة أو لا يعرفها، سيحاول التعرّف عليها أكثر عبر صفحتها على فيسبوك. وهذا ما فعلت. اكتشفت أنها سبق أن أرسلت لي طلب صداقة لم أره. زادت هذه المعلومة من مرارة مشاعري وخاصة أنني أعتبر نفسي من الأشخاص المهتمين جدا بالفنانين الفلسطينيين. بشكل إرادي وجدت نفسي أضغط على قبول الصداقة، وحتى إرسال رسالة لها قلت فيها “الله يرحمك هبة ويرحم أولادك ويسعدك بلقاء ربك”.

بدا لي تطبيق فيسبوك وكأن له جانب ميتافيزيقي بإمكانه أن يحمل صدق الكلام فقط إلى كل من رحل. حتما ما أقوله هو نوع من الهرطقة. ولكنني هذا ما شعرت به لحظتها.

أول ما لفت نظري آخر لوحة عرضتها على صفحتها: امرأة حزينة تحتضن حمامة السلام المزعوم وعلقت بهذه الكلمات "نحن دائما نبحث عن الأمان في حياتنا. قد نجده في الحب، ولكننا سنظل نبحث عنه". أما آخر ما كتبته من خواطر قبل بضعة أيام من استشهادها فكان “اللهم نستودعك قلوبا مفجوعة بالفراق اللهم أجبر كسر قلوبنا واجعلنا لقضائك وقدرك صابرين، يا رب كن معنا وقوّنا وزدنا صبرا وأجرنا على صبرنا، اللهم اربط على قلوبنا فإنها لا تقوى ولا تستند إلا بك”. هنيئا لك الجنة إن شاء الله يا هبة.

خرج آخر فيديو لها على الإنترنت حمل تاريخ الثامن والعشرين من سبتمبر وهي تخبر عن فنها ونفسها وعن أحلامها. ولفتني أنها قالت "أود أن أعكس في لوحاتي كل المشاعر السلبية التي في باطني وأن أخرجها إلى العلن من خلال الرسم". لفتني لأنه الناظر إلى لوحاتها لا يعثر على السلبية أو الكآبة، بل تبهره الألوان التي استخدمتها الفنانة دون تقشف حدّ أن بدت معظمها وكأنها أعراس وطنية، لا بل قومية، لا تنتهي. أما مضمون لوحاتها فهو غنائي بامتياز. غنائي ليس بالأسلوب، بل بمنطق العاشق الذي ينتج مضمونه.

رسمت الفنانة زقوت مدينة القدس في لوحات عديدة. تكرار لا يروي ولم يرو صاحبته حتى آخر لحظة من حياتها. فكيف يحدث الارتواء وهبة حلمت بأن تعبر لوحاتها إلى كل فلسطين وإلى قلبها، القدس، وهي التي لم تقدر على أن تدخل إلى يافا وعكا وحيفا وأن تعرض وبحضورها خارج غزة؟

هذه "السلبية" التي تحدثت عنها الفنانة لم تحضر في لوحاتها إلا وقد طهرتها من كل ألم. تبدو النساء الفلسطينيات في بعض لوحاتها بعيونهن الحزينة، ولكن هذا جلّ ما في الأمر لأن العرس الموعود بالمعنى المُطلق لم يغادر قلب ولا ذهن الفنانة ولا نساء لوحاتها.

◙ أعراس لونية تتحدى الموت والألم
◙ أعراس لونية تتحدى الموت والألم

هذا الزخم اللوني والمشاهد البهيجة في لوحاتها لا ينسيانا أبدا أن هبة زقوت هي فنانة غزاوية وتعيش ضمن حصار مدينتها وفي ظل ظروف معيشية قاهرة تخطت مدتها الـ15 سنة، بل على العكس. ما ترسمه يجعلنا نتيقن أكثر فأكثر بقدرة الفن على اجتراح المعجزات لاسيما إن كان ممارسه يتمتع بهذه الصلابة والرقة في آن واحد أمام الفزع والظلم المتواصل.

صحيح أن معظم لوحات الفنانة تهتف بالقدس المحتلة، ولكنها رسمت أيضا المرأة الفلسطينية بأبهى حلتها ورسمت الطبيعة الفلسطينية لوحدها أو مع أطفالها وصديقاتها. رسمتها بصبارها وزيتونها وبرتقالها وبحرها وقمحها. غير أن كل ما رسمته بدا وكأنه يدور في فلك هذه المدينة المقدسة، مزركشا أطرافها وأنفاسها بكل ما هو طيب وعامر بالأمل. ولعل آخر لوحاتها التي جسدت فيها سماء القدس ومجسد الأقصى عابقا بالأسهم والألعاب النارية كفيلة بأن ترينا كيف يتحول الرصاص القاتل اليومي إلى نوافير من أضواء ملونة في روح الفنان الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها.

هناك أمر آخر يجدر لفت النظر إليه هو أن أكثرية الفنانين الفلسطينيين الذين يعيشون في قلب فلسطين – وهؤلاء يطلق عليهم فنانو الداخل – تتميز أعمالهم بنزعة شديدة إلى الواقع الآني المأساوي والتعبير عنه بعدة أساليب فنية. أما الفنانون الفلسطينيون الذين يعيشون خارج فلسطين - وهؤلاء يطلق عليهم اسم فناني الشتات - فتتميز أعمالهم بميلها الشديد إلى تجسيد فلسطين الذاكرة والفرح والسهول الخضراء وهناء العيش في كنفها.

تأتي الفنانة من ضمن هذه المعادلة، حجر عثرة. هبة زقوت، يا تغريدة لونية طفولية في قلب الألم الفلسطيني الضاغط من كل جنب، رسمت فلسطين حلوة كما أنت: في الواقع، كما في الذاكرة.

يُذكر أن الفنانة هبة درست في كلية الفنون الجميلة في جامعة الأقصى في غزّة، وشاركت في معارض محلية ودولية. حلمت بأن تصل لوحاتها إلى الأراضي المحتلّة عام 1948، وأن تُعْرَض في صالة عرض، وبحثت عن سبل لتحقيق حلمها قبل أن ينهار عليها سقف منزلها.

آخر لوحاتها ترينا كيف يتحول الرصاص القاتل اليومي إلى نوافير من أضواء ملونة في روح الفنان الفلسطيني
◙ آخر لوحات هبة زقوت ترينا كيف يتحول الرصاص القاتل اليومي إلى نوافير من أضواء ملونة في روح الفنان الفلسطيني

14