المهرج الشامل سائد ودون أقنعة في لوحات سيروان باران

لا يأتي مهرج الفنان العراقي سيروان باران ليبث الفرح والسعادة، بل هو مهرج حزين وتعيس، متأثر بالقبح الذي يجتاح العالم والألم الذي يعشش في قلوب البشر، مهرج يحاول أن يكون لسان الفنان والطريقة التي يرى فيها محيطه وخاصة محيطه العراقي والعربي.
"المهرج هو فنان يؤدي أعمالا كوميدية يتخذ فيها أشكالاً غريبة قد تستدعي منه وضع مستحضرات التجميل، ولبس الملابس الغريبة التي قد تكون ذات أحجام كبيرة جدا وتتناسب مع أحذية غير عادية وأمور أخرى”. أما وظيفته فهي إسعاد الناس ورسم الابتسامة على وجوههم.
أود أن أعقبّ على هذا التعريف أنني لم أجد للمهرج يوما، منذ أن كنت طفلة، أي لطافة، بل كان ولا يزال بالنسبة إلي مثالا للرعب والشر المُجسد في ملامحه وألاعيبه وبهلواناته المثيرة للغثيان. أما بالنسبة إلى معظم الفنانين التشكيليين الشرق أوسطيين فالمهرج بنسخه المُعدلة هو إما يجسد الإنسان المتحول إلى مهرج بهدف إخفاء أحزانه أو الضحية المقهورة أو المنافق/المُخادع من خلف القناع، أو المجرم منعدم الإحساس والضمير.
في هذا السياق نود لفت النظر إلى أن أحد الفنانين المعاصرين، الفنان التشكيلي العراقي سيروان بارّان يبدو، ومن خلال ما رأينا له من لوحات يقوم بنشرها على صفحة فيسبوك الخاصة به، قد حسم أمره حول ماهية المهرج حسما لا حسم من بعده. ولم يأت هذا التصوير للمهرج من لا شيء، بل بعد سنوات عديدة واصل فيها الفنان الانغماس في تجسيد أصول ونتائج العنف والعدوان البشري تجاه الآخر وذلك من الناحية التاريخية، والنفسية، والاجتماعية، والسياسية.
تنقّل الفنان العراقي في بصرياته من عالم الكلاب المُفترسة والمُفتَرسة وتلك التي ساحت أجسادها في خلفيات اللوحات لتكون “البيئة الحاضنة”، إذا صح التعبير، لكل ما يجري اليوم على الأرض العربية، مواصلا انتقاله إلى قادة الجيوش ذوي الوجوه المتعفنة التي يحار المرء أمامها إن كانت تعبر عن الجُبن الوضيع أمام الدفاع عن القضايا القومية المُحقّة أو عن نتانة الاختباء خلف جنود قذفوا إلى معارك خاسرة أو واهية لا قيمة أخلاقية فيها وتعبر عن وحشية عارمة تقتات من ذاتها فترشح قيحا على حفاف مسام صانعيها ومروجيها وصولا إلى تجسيد الساسة القذرين والسجناء المقهورين في لوحاته.
جسّد الفنان بكلمة واحدة قبح العالم الذي اختبره شخصيا ورآه من حوله يتعاظم ويزداد قبحا ووحشية يوما بعد يوم ويجعلنا نتساءل كيف لصدر فنان واحد أن يتحمل كل هذا العنف والخذلان؟ اليوم، لا يتساءل الفنان سيروان باران في لوحاته هذه إن كان الانسان قد أصبح مهرجا أم لا، بل هو يقرّ ذلك. ويجعل من المهرج في لوحاته أصدق صورة عما آل إليه الإنسان بشكل عام.
في العديد من لوحاته يظهر المهرجون كمسؤولين سياسيين ينطقون ببيان صحفي قلبه رياء على الأرجح. ما يلفت النظر في هذه اللوحات هو الخلفيات المتفجرة لونيا التي تحتضن هؤلاء الشخوص وتتشرب من وباء “الهرج والمرج” المتفشي منهم تقاعسا عن نصرة الحق أو تمتينا لحصارهم على القلة المتبقية من البشر الذين يحافظون على نقاء ضميرهم الحيّ.
وما نذكره هنا (أي انتشار الوباء) كانت بداياته في لوحات عرضها الفنان في بيروت تحت عنوان “أنياب”، حيث ذوبان الأنياب وأحيانا اختفاؤها في معرض يحمل اسمها يأخذ الأعمال إلى أبعد من تصوير لأدوات التهشيم نحو أصول العدوان المتمثلة بتسلخ لا ينتهي ويرمي بالمُشاهد خارج عالم بني آوى نحو عالم بني آدم الذي يتعرض يوما بعد يوم إلى عمليات تحويل لملامحه الإنسانية إلى ملامح وحشية يحكمها الإجرام على أنه صفة عادية لا تستحق الوقوف عندها.
ولأجل استيعاب ماهية المهرجين الحاضرين في لوحات الفنان يجب الإضاءة على الأرحام التي احتضنتهم حتى تمام ولادتهم لنرى “صفوتهم” يسودون على عرش كوكب الأرض انطلاقا من الأراضي المقدسة التي تعيش اليوم ذروة عدوانهم.
هذا ما هيّأنا له الفنان سيروان باران شعوريا أو لاشعوريا في معرضه السابق المعنون بـ”أنياب” حين أبدع لوحات انتشرت فيها مساحات/أرحام مكتظة ومعجونة لونيا احتضنت كلابا وحشية تتقاتل وتُقتل. أرحام غليظة بدت حينها غرائبية، ولكنها اليوم تؤكد لنا أنها لم تكن إلا مصانع وحوش بغيضة من صنع البشر.
صحيح أن ما من فنان يُحب أن يُقارن عمله الفني بعمل فنان آخر معاصر له غير أننا نود هنا أن نذكر الفنان العراقي رياض نعمة ولوحاته التي جسد فيها المهرج. ففي حين ظهر “مهرجه” وفي لوحات عديدة في حالة تحوّل وضياع يظهر مهرج الفنان سيروان باران كائنا جهنميا مُكرسا في مجتمعاته يعتاش إما من خوف أو تجاهل الآخرين الرازحين تحت سلطته.
◙ مهرج الفنان سيروان باران يظهر كائنا جهنميا مُكرسا في مجتمعاته يعتاش إما من خوف أو تجاهل الآخرين
مهرج الفنان رياض نعمة يضع التبرج الصارخ أو يرتدي أقنعة في حين مهرج سيروان باران هو قناعه. وجه مُهرج الفنان رياض نعمة هو الإنسان الهارب من مآسيه. أما مهرج سيروان باران فهو المُنهمك بتجمعات رسمية والمبتهج بزيف التصاريح السياسية الطنانة المناهضة للعدوان والمؤازرة لأصحاب الحق. المهرج في لوحاته ليس ضاحكا وإن كان بمظهره كذلك ولا مُضحكا لأنه مقزز، ولا حتى كاذبا وإن نطق بالزيف. هو فقط: عين الشر وأصله.
المهرجون في لوحات الفنان سيروان باران يبدون أنهم ولدوا على ما هم عليه، أي أشرارا منذ البداية. يفتخرون بذاتهم الخارقة/اللعينة القادرة على التحكم بعقول شريحة من البشر وتبليد مشاعر الشريحة الأخرى حيال الكوارث والفواجع التي يسببونها عمدا. ولعل اللوحة التي يظهر فيها مجموعة من الرجال المرتدين ملابس سوداء رسمية وعلى رؤوسهم قبعات حمراء تشبه قبعات المهرجين هم الأكثر إشارة إلى حقيقتهم الحالكة.
هذا اللون الأحمر المتفجر في لوحات الفنان الحاضرة والسابقة يستحق لوحده مقالا. لكن جلّ ما نستطيع قوله وخاصة عن اللوحات التي يجسد فيها الفنان المهرج، إن الأحمر هو وقودها وروحها المأساوية. بأي أحمر رسم الفنان لوحاته تلك وكيف هو وقعه على المُشاهد؟ ربما الإجابة تكون إن استطعنا تخيل سجين في زنزانته وصفارة إنذار حادة تدوي دون توقف حتى يرشح الدم من أذنيه. هذا الأحمر، هو أحمر المهرج، أصله وأثره.
يذكر أن سيروان باران من مواليد بغداد حاصل على بكالوريوس فنون جميلة من جامعة بابل، وهو عضو في اللجنة الوطنية للفنون التشكيلية، والرابطة الدولية للفن التشكيلي. أقام العديد من المعارض الخاصة وشارك في معارض أخرى دولية ومحلية، كما حاز على عدد من الجوائز.