رياض نعمة يغوص في دواخل الإنسان المهرج

من أشعار الفلسطيني محمود درويش ومن المآسي التي تعيشها دول عربية عديدة استوحى الفنان التشكيلي العراقي رياض نعمة فكرة معرضه الفني الجديد الذي يسبر فيه أغوار النفس البشرية، وكيف يتحول الإنسان رغم الألم والأزمات إلى مهرج.
افتتحت “دار النمر للفن والثقافة” في بيروت معرضًا فنيًا للتشكيلي العراقي رياض نعمة بعنوان “عن اللاشيء”. يستمر المعرض حتى 28 أكتوبر الجاري ويضم مجموعة كبيرة من اللوحات أنجزها الفنان بأحجام مختلفة. لوحات تجتاح نظر المُشاهد إذ تعتلي بأغلبيتها الساحقة رياح شرق أوسطية عاتية تُهدّج من وجوه الناس وتُبعثر ملامحهم.
يجيء هذا المعرض من وحي قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش حملت عنوان “عن لاشيء”. ونورد هنا مقتطفا من القصيدة “هكذا يتناسل اللاشيء من لا شيء آخر/ما هو هذا اللاشيء هذا السيد المتجدد، المتعدد، المتجبر، المتكبر، اللزج، المهرج.. ما هو اللاشيء هذا؟/ربما هو وعكة روحية/ أو طاقة مكبونة/أو هو ربما ساخر متمرس/في وصف حالتنا!”.
ليست هذه المرة الأولى التي يستوحي فيها الفنان العاشق شعر محمود درويش – على الأغلب – لكثافة صوره البصرية من شعره فقد سبق أن قدم معرضا في بيروت حمل عنوان “وأنا الذهاب المستمرّ إلى البلاد”، وكان مقتبسا أيضا من قصيدة لمحمود درويش.
معرضه الجديد تقدمه “دار النمر للفن والثقافة” بهذه الكلمات “تتمحور أعمال الفنان حول سؤال: كيف وسط كل هذه الفانتازيا الرهيبة التي يعيشها الإنسان في بلدان مثل العراق وفلسطين ولبنان وسوريا وغيرها، تحول الإنسان ومن حيث لا يدري إلى مهرج؟”.
ويضيف البيان الصحفي الذي نشرته “دار النمر” أن المعرض يغوص “في دواخل الإنسان ليكتشف المعنى الحقيقي لحياته، فهو يخفي الشكل الحقيقي لمعاناته الشخصية وسط تحديات الحياة الرهيبة، ويعكس وجهًا آخر يتمثل بالضحك والسعادة! كلنا مهرجون”.
يتساءل الناظر إلى اللوحات، بغض النظر عما ورد في البيان الصحفي، عن حقيقة هذا المهرج الذي رسمه الفنان وعمّا يمثّل.
أول ما يلفت النظر هو أن الفنان يركز على رؤوس الشخوص وعلى وجوهها، إلا من بضع لوحات برزت فيها أجسادها. وأن معظم شخوص الفنان لا تظهر بأنها “تخفي الشكل الحقيقي لمعاناتها الشخصية.. وتعكس وجوها أخرى تتمثل بالضحك والسعادة”، كما ذكر البيان الصحفي.
في المعرض رؤوس ظهرت تحت عناوين مختلفة. رؤوس لم ترتد أقنعة، بل هي أقنعة كاملة مصنوعة من رقع ملونة يحضر في بعضها وجه مهرج ناعس وتذكر بالإنسان/الآلة وبالتكنولوجيا الرقمية. وتأخذنا هذه اللوحات، التي قدمها الفنان متجاورة ومتتابعة لا تختلف كليا عن بعضها البعض، ببعض من أعماله السابقة حيث رأينا فيها شيئا من تقنية التشفير والترقيم مما يشي باقتراب الإنسان من حالة التآخي ما بين الجرح وغياب الألم، والإعلان عن موت الإنسان وقيام الآلة في نسخ لا حدود لها.
وإلى جانب تلك الرؤوس حضرت في المعرض رؤوس ذابت تفاصيلها وتداخلت ملامحها في تلاوين فاقعة تقبض على نفس أيّ تعبير إنساني يحاول أن يشير إلى الحالة النفسية التي يختبرها “الرأس” أو الوجوه المرسومة. في هذه الوجوه أيضا لا يحضر المهرج الضاحك الذي يخفي مشاعر الحزن، بل يحضر انحلال تفاصيل الوجه/الهوية.
وفي المعرض أيضا سلسلة من الوجوه، الخاصة بمهرجين غير مهرجين، معجونة لاسيما عند أطرافها ببعضها البعض وتذكر بالتوائم المتحدة على مستوى الرأس. ولكن في هذه اللوحات تحلّ، فكرة التشوه غير الخلقي، بل الوجودي والسياسي والنفسي والمجتمعي حيث تصبح الرؤوس المفترض أن تكون أصلب ما في الانسان أشبه بعجينة نتنة، رغم إشراق ألوانها، مدعوكة بالدم وبمسحوق خفيّ ينثر فيها الموت كشكل من أشكال الحياة.
وتحضر في المعرض وجوه في وجه واحد – وذلك في عدة لوحات – وكأن صاحب هذا الوجه لا يكفّ عن التحوّل وعن الغوص في متاهة ضياع الهوية واندثار أيّ ملمح لطريق يمكن سلوكه فالخروج بالتالي من الجحيم.
أما هذه الوجوه التي تحدث عنها البيان الصحفي الخاص بالمعرض أي تلك التي “تخفي الشكل الحقيقي لمعاناتها الشخصية.. وتعكس وجوها أخرى تتمثل بالضحك والسعادة” فقد تكون حاضرة أيضا، ولكنها قليلة بالنسبة إلى موجودات المعرض وقد تكون الأقل أهمية. وجوه تعبّر عن حزن عميق لم تستطع هيئة المهرج أن تخفيه، أو أن تكذّبه.
يبرع الفنان في رسم الشخوص في كامل أو شبه كامل أجسادها ليس من الناحية التقنية الفنية وهذا أمر معلوم، ولكن من ناحية قدرتها الهائلة والمركزة على التعبير عن الخواء والشراسة الدفينة ومشاعر الحب الهشة. الخواء حين يصبح لحافا يتغطى به “المهرج” حين ينام. والشراسة الدفينة حين تستحيل عصفورا يقف على يد المهرج. والحبّ الهش الذي يتمثل بعاشقين “يهرّجان” على بعضهما بعضا في وسط سرير: في وسط بقعة من الضوء أشبه بقهقهة فاه مفتوح جزء منه وسادة حمراء خلفها هوة من عتمة دامسة، وجزؤه الآخر طرف من أعلى اللحاف الأصفر المسدل على السرير.
تحضر في المعرض لوحة أو لوحتان من مجموعة سابقة للفنان حيث حضر اللون المتفجر في بقعة واحدة من الوجه. والفنان قد أنجز سابقا لوحات رسم فيها الجزء الأعلى من اللوحة وكأن ألوانه قد ذوبت “بأسيد” رمادي مُكفهر. لوحات أبقى فيها على الجزء الأدنى وهو بكامل ألوانه. وكما في لوحات سابقة حضر الجندي في لوحات الفنان رياض نعمة.
وقد ذكر البيان الصحفي حول ذلك بأن “في فنه أيضًا مشاعر ومخاوف الجنود المدججين بالسلاح، ويصور شخصيات ارتدتها المعركة تتناقض بين مظهرها الخارجي القاسي والمشاعر الإنسانية الضعيفة”.
ونرى في المعرض لوحة لجندي يرتدي ملابسه العسكرية بالمقلوب وقرطين ملونين يتدليان من أذنيه. لوحة شائكة وبالغة التعبير ويُمكن أن تُدرك معانيها بأكثر من طريقة، ولكن جميع هذه الطرق تنطلق وتؤدي إلى الشعور بالخذلان.
وقد تحيل هذه اللوحة إلى لوحة أخرى في المعرض – نود أن نعتبرها نجمة المعرض – حيث يتواجه شخص مع شخص آخر هو ذاته، ولكن مع ملامح مهرج. يوجه الأول للثاني إدانة مّا ويريد أن يُشعره بالخذلان. ما يؤثر في هذه اللوحة هو أن لا الشخص الأول مهتم وصادق باتهامه ولا الثاني يهتم بما يشير إليه الأول. وكيف يصعب استيعاب ذلك؟ “هكذا يتناسل اللاشيء من لا شيء آخر/ما هو هذا اللاشيء هذا السيد المتجدد، المتعدد، المتجبر، المتكبر، اللزج، المهرج..”. أجل، إنه زمن المهرجين، أو كما يقول الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو “إنه زمن الصعاليك”.
