رحيل مبكر على جناحي الأحلام والأمنيات المؤجلة

لوحات الفنان الفلسطيني محمد الجولاني تفقد حضوره فيها إلى الأبد.
الجمعة 2020/10/09
زرقة طفيفة تفتح الأفق وتوسّع المساحات

توفي الفنان الفلسطيني الشاب محمد الجولاني عن عمر ناهز الـ37 ربيعا، بعد صراع دام أشهرا مع داء السرطان، آخذا معه المزيد من أحلامه وأحلام الآخرين المعلّقة على الأسلاك الشائكة وعلى ظل الجدار الفاصل الذي أسّس لمنطق بات “حالة ثقافية” طالت كل القرى والمدن الفلسطينية ومنها مدينة القدس، مدينة الفنان الراحل.

تقهرني فكرة أن الفنان الفلسطيني متعدّد الوسائط محمد الجولاني أرسل لي طلب صداقة على الفيسبوك ولم أنتبه إلى ذلك، إلاّ منذ أيام قليلة عندما أردت البحث عنه. قبلت صداقته بعد غيابه في حركة تواطؤ مع كل ما يمثل من أحلام مجهضة وأخرى قيد التكوين. هكذا تنساب الحياة  بين لحظات الوعي وعدمه في أحيان كثيرة، لاسيما في زمن المنغصات التي تأتي دفعة واحدة.

منذ بضعة أيام انتشر خبر وفاة الفنان الشاب بعد صراع مرير مع المرض. وذكرت وكالات الأنباء أنه “قدّم العديد من المشاريع واللوحات الفنية التي تنوّعت حالاتها بين التهكّم والغضب والتأمُّل، مستكشفا فكرة عزل الدول والمدن والأفراد. حصل على ‘جائزة إسماعيل شموط للفنون الجميلة’ (2016)، و’جائزة التعليم العالي’ (2007) وتخرّج من جامعة القدس بدرجة بكالوريوس في الفنون الجميلة (2009)، وقام بتدريس الفنون البصرية في الجامعة ذاتها. كما قام بالتدريس في مدرسة الفرندز للبنين”.

معلومات عامة وضرورية عن فنان من الجيل الفلسطيني الجديد رحل باكرا جدا (37 عاما)، بعدما بدأت ترتسم معالم موهبته وبعد بروز أسلوبه الفني الخاص في فترة قصيرة. أسلوب جمع بين التشكيل الهندسي والخطوط المتعرّجة التي تشكل معالم الجسد والوجه، وتمزج بين التجريد الشرقي المنحى والتشكيل الواضح البيان.

فنان مشبع بهويته

محمد الجولاني يعدّ واحدا من الفنانين الحيويين والمنفتحين على التجارب الفنية خارج فلسطين دون أن يشكل ذلك أيّ تقويض لهويته
محمد الجولاني يعدّ واحدا من الفنانين الحيويين والمنفتحين على التجارب الفنية خارج فلسطين دون أن يشكل ذلك أيّ تقويض لهويته

كان محمد الجولاني قد بدأ منذ حوالي خمس سنوات بإدخال شخصية تشبهه في لوحاته وتطوف في الشوارع، تسكن أحضان حبيبة، أو تخرج من ذاتها، من مرسمها، خروجا مشبعا بهدوء غرائبي هو حزن وطمأنينة في آن واحد.

ولعله خرج كل مرة من مرسمه ليعود إليه بهذه الخفة الأثيرية التي لوحتها زرقة ولون رمادي طفيف يفتحان الأفق ويوسّعان المساحات. غير أن هذا ليس فقط ما هو الأهم عند محمد الجولاني؛ فمن أهم ما بدأ الفنان يشكله هو نصه الفني المعاصر المُنبعث من “فلسطينيته”. فمن الصعب أن تطلع على عمله من خارج منظار أنه فنان فلسطيني “تصدع” بحبه لوطنه المسلوب ولقلقه الذاتي المتصل بمدينته.

والحقيقة أنه ليس الوحيد في ذلك، إذ أنني لم أر حتى اليوم فنانا تشكيليا فلسطينيا رمى هويته خلفه ومضى، بغضّ النظر عن تنوّع الأساليب الفنية التي اعتمدها وبلاغة تأثره بالتيارات الفنية الغربية المعاصرة، في حين أنني رأيت هذا التخلي الشعوري واللاشعوري عند العديد من الفنانين التشكيليين العرب.

هؤلاء انسلخوا كليا بنوع من الفصام الحاد عن هويتهم الوطنية أو القومية (التي لست من المؤمنين بأن لا علاقة لها بالهوية الفنية) التي تشكل نواة موهبة وتميز كل فنان وخاصة في زمن العولمة.

ومن نافل القول أن الهوية وحس الانتماء إليها، اليوم أكثر من أي يوم مضى، هما ضرورة قصوى، لأن الهوية عابرة للاتفاقيات السياسة التي تُجرى على مضض أو بترحيب من الأطراف المعنية. ضرورة هي ناطقة باسم الحق عبر أثير التبدلات والانقلابات بدءا بالسياسية والاجتماعية والاقتصادية. انقلابات هي في كلمة واحدة: انقلابات وجودية.

خالد في الذاكرة

محمد الجولاني يغادر إطار لوحاته إلى عالم الحلم الأبدي
محمد الجولاني يغادر إطار لوحاته إلى عالم الحلم الأبدي

في هذا السياق بالتحديد كان الفنان محمد الجولاني على الرغم من قصر تجربته الفنية واحدا من الفنانين الحيويين والمنفتحين جدا على التجارب الفنية خارج فلسطين دون أن يشكل ذلك أي تقويض لهويته، بل على العكس. وقد انغمس في نقل تجربته الفنية وحبه لفلسطين ومدينته القدس إلى الأجيال الأصغر منه سنا عبر سلسلة من الورش التدريبية التي أفادت المجتمع المقدسي وجعلت الفنان محبوبا من أهل المدينة.

وقد أطلق عدة مبادرات لتلوين ورسم الجدران، والشوارع وأسطح الأبنية، في ضواحي القدس المختلفة، وخاصة في القدس القديمة. كما أطلق مبادرة “متحف الشارع” من ضمن مشروع “رسائل من القدس” مستهدفا طلابا بين سِنّي 13 و16 عاما، بهدف تعزيز الهوية الفلسطينية لديهم.

في حبه لمدينته القدس، نشر صديقه الفنان الفلسطيني خالد الحوراني على صفحته الفيسبوكية كلمات مؤثرة هي نوع من المخاطبة الذاتية النبيلة التي ربما تهدف إلى تخفيف وطأة ألم الفقدان عند الفنان، ولكنها كلمات أفصحت الكثير عن شخصية الفنان الراحل محمد الجولاني من قبل فنان عرفه بعمق.

وممّا كتب خالد الحوراني نذكر “عندما طال غيابه عن القدس قلت له مرة ‘البلاد طلبت أهلها يا محمد’ فقال بابتسامته الخجولة ‘معك حق. أنا أفكر فعلا في العودة إلى القدس. أنا بحاجة لها أكثر ممّا هي بحاجة لي. ومهما ابتعدت عنها تبقى ملهمتي ومكاني الذي أحب أن أعبّر عن نفسي فيه'”.

غادر الفنان الحياة باكرا جدا. فهل هو تارك لإرث فني؟ ليس تحديدا لصغر عمره ولقصر تجربته الفنية، ولكنه بالتأكيد ترك أثرا عميقا في الأجيال القادمة. وسيبقى مرسم الفنان محمد الجولاني مفتوحا ومذكورا ومنعشا كما هي أعماله الأثيرية بالرغم من الألم والشعور بالوحدة والقلق الذي يسكنها.

يذكر صديقه الفنان خالد الحوراني أن محمد الجولاني كلما يَزُرْ معرضا لزميل أو زميلة يسأله “متى معرضي؟”، وكان يجيبه “نحن بانتظارك”، فيقول له “أنا لست كسولا.. ولكن أفكاري تسبق أصابعي.. لا بد من معرض وربما معارض”.

إنه نوع خاص من الحماس لا يفهمه إلاّ من انغمس في العمل الفني. إنه اللحاق بصور وأفكار يمكن تظهيرها بصريا، ولهاث حسي تنخرط فيه حاسة الشم والنظر واللمس لتتحول إلى ألوان تسبقنا ولم نستحوذ، ولن نستحوذ عليها جميعها. ألوان نقبض عليها حينا.. وتقتلنا حينا آخر. السلام يا محمد لروحك الفوّارة.

17