دراما "الزمن الجميل" سبيل التونسيين للهروب من واقعهم المأزوم

تواصل الفضائية التونسية “الوطنية 2” إعادة عرض بعض المسلسلات التونسية المنجزة في العقدين الأخيرين، وما قبلهما بقليل، وسط متابعة جماهيرية هامة تحقّقها القناة التي كسبت رهان الأكثر مشاهدة بعزفها على وتر النوستالجيا في زمن الانهيار الاقتصادي الشامل.
تونس – دأبت القناة التونسية “الوطنية 2” (عمومية) منذ ما يزيد عن العام على إعادة بثّ عدد من المسلسلات الرمضانية التي شهدت نجاحا جماهيريا كبيرا أثناء عرضها في أواسط تسعينات القرن الماضي وحتى بداية الألفية الثالثة.
مسلسلات اصطلح التونسيون على تسميتها بـ”العائلية” الخالصة، وهي التي كانت تجمع العائلة الواحدة على طبق فرجوي يقطع مع ثقافة العنف اللفظي والمادي الذي استشرى في العشرية الأخيرة من الألفية الجديدة، الأمر الذي بعثر شمل العائلات التونسية وفرّق اهتمامها بالمنتج الدرامي بشقيه الكوميدي والتراجيدي، فبات لكل شريحة عمرية مسلسلها الخاص ونجمها أو نجمتها الأخص في ظل تعددّ الفضائيات في زمن الأقمار الصناعية المفتوحة.
“الوطنية 2” كسبت رهان الأكثر متابعة من خلال إعادة عرضها لمسلسلات لعبت على وتر الحنين إلى الماضي، بتآزره الأسري وتضامنه المجتمعي وهدوء وتيرة الحياة وبساطتها حينها.
مسلسل “الخطاب على الباب” بجزأيه (رمضان 1996 و1997) وسيتكوم “اضحك للدنيا” بجزأيه أيضا، الأول بثّ في رمضان 1995 والثاني عرض في رمضان 1999، و”شوفلي حل” بأجزائه الستة (من 2005 إلى 2009)، ثلاثة نماذج درامية تحدّثت عن العائلة التونسية ويومياتها سواء في شهر رمضان كما هو الحال مع مسلسل “الخطاب على الباب”، أو في سائر أيام السنة كما جاء في سلسلتي “اضحك للدنيا” و”شوفلي حل”، وقد وفّقت “الوطنية 2” في إعادة بثّها تباعا في أوقات ذروة المشاهدة التلفزيونية، فحقّقت نسب مشاهدة عالية قاربت الـ22 بالمئة، وفق إحصائيات شركات سبر الآراء وقياس نسب المشاهدة للفضائيات التونسية، متفوّقة بذلك على البرامج السياسية المُباشرة التي تعرضها في التوقيت ذاته جل الفضائيات التونسية الخاصة.
وهو ما يعني أن المواطن التونسي ملّ من حاضره المأزوم في ظل أزمة اقتصادية خانقة ما انفكت تتفاقم مع تفشي فايروس كورونا، الأمر الذي أصاب كل القطاعات الحيوية بالبلد بالإنهاك اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، بل وحتى أخلاقيا مع تفاقم معدّلات الجريمة، فآثر الهروب إلى الوراء من خلال متابعته لمسلسلات تعبّر عنه وتشبهه، مسترجعا شيئا من ألق الحياة الاجتماعية البسيطة والتآزر الأسري المفقود شكلا ومضمونا وسط تنامٍ غير مسبوق لظواهر اجتماعية مرضية تُغالي في الانتصار للفردانية على حساب المصلحة العامة.
وهذا الطرح أكّده الباحث في علم الاجتماع التونسي المنصف ونّاس في مؤلفه “الشخصية التونسية” الصادر في العام 2018، والذي حفر فيه سوسيولوجيًا في مفهوم الشخصية القاعدية للتونسي، والتي تعني “حالة متوسطة من التماثل النفسي والثقافي والاجتماعي التي يتمّ التعبير عنها من خلال سلوكيات وعلاقات اجتماعية وإنسانية شبه متماثلة وشبه مشتركة على الرغم من وجود تباينات واختلافات”.
ومن هناك أبرز الباحث التونسي أن التعدّد التاريخي أسهم في جعل الشخصية التونسية مرنة ومنفتحة وقابلة للتكيّف والاندماج والانصهار السريع والتجاوب مع الوضعيات المختلفة، لكنها في المقابل تُغلّب المصلحة الذاتية على المصلحة الجماعية، وضعيفة المبادرة وقليلة التحفّز للعمل.
وهو ما نجده متطابقا بشكل شبه تام في شخصية “السبوعي” التي جسّدها الفنان الراحل سفيان الشعري في سيتكوم “شوفلي حل” أو شخصية “سطيّش” (فيصل بالزين) في مسلسل “الخطاب على الباب” أو “مريم” (فاتن الفازع) في سيتكوم “اضحك للدنيا”.
كل هذا جعل من المسلسلات الثلاثة تعيش في وجدان التونسي لما يُناهز عن ربع قرن بالنسبة إلى “اضحك للدنيا” و”الخطاب على الباب”، ولأزيد من عقد بالنسبة إلى “شوفلي حل”، حيث نجحت كلها ولا تزال في شد انتباه المُشاهد التونسي باعتمادها على كوميديا الموقف، ووحدة المكان، المدينة العتيقة للعاصمة تونس في “الخطاب على الباب” و”بيت عائلة فزدقة” في “اضحك للدنيا” و”عمارة جنات” في “شوفلي حل”، علاوة على محدودية الشخصيات مع تنوّع مشاربها الثقافية والاجتماعية وفيئاتها العمرية أيضا، ممّا أثرى النصوص التي اجتهد في كتابتها ثلة من أبرز كتاب السيناريو في تونس، الطاهر الفازع في "اضحك للدنيا” وحاتم بالحاج في “شوفلي حل” وعلي اللواتي في “الخطاب على الباب”.
وهذا الأخير، أي علي اللواتي، تمكّن من خلال إلمامه بالشأن التونسي العام، وهو الشاعر والفنان التشكيلي وكاتب الأغاني، من رسم ملامح شخصياته وفق الشخصية القاعدية التي تحدّث عنها المنصف ونّاس في مؤلفه الآنف ذكره، ليجسّد “إلياس” (قام بالدور الفنان الراحل حاتم بالرابح) شخصية الشاب الطائش والانتهازي، فيما جسّد نجيب بلقاضي دور “سيد أحمد” المثقّف العضوي وفق نظرية قرامشي.
كما مثّل كل من “عبودة” (رياض النهدي) و”حفّة” (جمال ساسي) الجانب المهمّش من أبناء الحارة الذين يبحثون عن التحقّق، وغيرهم من الشخصيات التي من الصعب تجميعها في مكان واحد وفي مسلسل واحد، لولا طرافة السيناريو وحبكته الانسيابية القادرة عل رتق الفتق الحاصل بين نجّار أميّ ومثقّف عضويّ وبرجوازيّ شعبيّ، اتفقوا دون وعي منهم على حب الحومة (الحارة) التي يقطنونها والذود عنها بكل ما أوتوا من قوة وحكمة حتى لا تُرتهن للآخر الغريب.
والأمر ذاته ينسحب على سلسلة “شوفلي حل” التي جمعت بين مُتناقضات المجتمع التونسي في أقصى تجلياتها من خلال تقاسم “جنات العرافة” وسليمان الأبيض “أستاذ الطب النفسي” بهو العيادة الطبية بينهما، وما ينجرّ عن ذلك من مفارقات كوميدية لا يمكن أن تتحقّق على أرض الواقع، إلّا من خلال نص حي وحيوي أبدع في صياغته الصحافي التونسي حاتم بلجاج.
وغير بعيد عن هذه الثنائية المجتمعية تمكّن بدوره الكاتب والصحافي الطاهر الفازع في “اضحك للدنيا” من تقديم نموذج للترابط الأسري الإيجابي عبر المصاهرة بين عائلتي “فزدقة” الحضرية و”الدنوني” الريفية، وجميعها قضايا وقع النبش فيها سياسيا واجتماعيا في تونس ما بعد ثورة 14 يناير 2011، لأسباب أيديولوجية معلومة غاياتها. فهجر المُشاهد التونسي “البلاتوهات” السياسية إلى مسلسلات اجتماعية قديمة تحكي وتستعيد فيه حنينا إلى كلمة سر يحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى، أساسها “التآزر المجتمعي الذي كان”.