النظام المصرفي التونسي يتقاعس عن دوره في إنقاذ الاقتصاد

وعود المركزي بأن يدفع القطاع المصرفي إلى وضع آلية تمويل جديدة لمساعدة القطاعات الإنتاجية، قد لا ترى النور بسبب إصرار البنوك على عدم الدخول في مخاطرة قد تزيد من متاعبها.
الأربعاء 2021/06/16
عزوف البنوك المحلية عن تمويل شركات القطاعين العام والخاص

لا توجد أي دلائل ملموسة حتى الآن على أن النظام المصرفي التونسي لديه نية للقيام بدوره في إنقاذ الاقتصاد المنهك. فحتى البنك المركزي مُصرّ هو الآخر على إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة عند 6.75 رغم أنه خفضها بواقع نقطة مئوية منذ بداية الأزمة الصحية في مارس 2020 بتعلّة الحفاظ على المؤشرات الاقتصادية مستقرة وفي الوقت نفسه جمع أكبر قدر ممكن من الاحتياطيات النقدية من العملة الصعبة التي تلاشت باطراد قبل الجائحة.

ثمة عزوف من البنوك المحلية عن تمويل الشركات العاملة في القطاعين العام والخاص، مثل شركتي الكهرباء أو المجمع الكيميائي الحكوميتين، إلى جانب العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة. وهذا الوضع دفع البعض منها إلى الاقتراض من الخارج بفوائد أكبر، لكن بعضها الآخر، وخاصة تلك العاملة في القطاع الخاص، أفلس لعدم قدرته على مواجهة الأزمة.

كيف نفهم إصرار البنوك التونسية على التقاعس في مساعدة القطاعات الاقتصادية المختلفة من أجل العودة إلى نشاطها في ظل ما تظهره السياسات النقدية القائمة والتي أدت إلى تحقيق المؤسسات المالية المزيد من الأرباح والعوائد، وجعلت النظام المالي متماسكا رغم أنه محاصر بأزمتين، الأولى سياسية، والثانية صحية؟

محافظ المركزي مروان العباسي أقرّ الأسبوع الماضي خلال جلسة استماع في البرلمان بأن البنوك المحلية لم تساهم على النحو الأمثل في تمويل الاقتصاد المحلي. كان يعي جيدا أن النظام المصرفي استفاد من حالة الارتباك وقرر البقاء في موقع المتفرّج لأن أغلب البنوك تقول إنها تضرّرت بسبب الإجراءات الحكومية والمتعلقة أساسا بتأجيل أقساط القروض.

وحتى يبعد عن نفسه اللوم ككل مرة يأتي فيها إلى البرلمان، تعهد العباسي بأن يدفع المركزي البنوك المحلية إلى المساعدة في إنعاش الاقتصاد المنكمش بشكل لم تسجله تونس منذ عقود من خلال وضع آلية تمويل جديدة يتم فيها التشاور مع مجالس إدارات المؤسسات المالية العاملة بالبلاد.

وعود المركزي بأن يدفع القطاع المصرفي إلى وضع آلية تمويل جديدة لمساعدة القطاعات الإنتاجية، قد لا ترى النور لسبب بسيط وهو إصرار البنوك على عدم الدخول في مخاطرة قد تزيد من متاعبها.

المركزي نفسه يتحمّل جزءا من المسؤولية، فبإبقائه على سعر الفائدة عند مستواه الحالي بحجة السيطرة على عدة مؤشرات سلبية هو في الحقيقة قرار نابع من القلق الذي يهدد متانة النظام المالي، لكنه لم يأت إلا بنتائج عكسية، وهو ما تترجمه الأرقام الرسمية، وبالتالي أليس من البديهي التساؤل حول تردّد السلطات النقدية في جعل قطار النمو يتحرك قليلا؟

ساعدت الجائحة في تراجع معدل التضخم السنوي إلى 4.8 في المئة في الثلث الأول من العام الجاري مقارنة مع 6.1 في المئة قبل عام، وفق أرقام معهد الإحصاء، وانتعاش الاحتياطات النقدية عند أعلى مستوى منذ 2011 عند نحو 21.5 مليار دينار (7.86 مليارات دولار)، وبقاء سعر صرف العملة المحلية عند مستوى مستقر أمام الدولار واليورو. وهذه الأرقام كافية لقراءة جدوى ضخ نفس جديد في القطاعات الإنتاجية المتضررة.

رغم غياب أرقام رسمية تشير إلى حجم الخسائر الناتجة عن توقف نشاط معظم الشركات بسبب قيود الإغلاق، لكن استنادا إلى مجموعة من المؤشرات يمكن تتبع رقم معاملاتها والتي تؤكد أنها تراجعت كثيرا أثناء الجائحة.

ومع أن إجراءات الحكومة كانت مشجعة في البداية على ضعفها، لكن الشركات اتخذت طريقا آخر ووضعت استراتيجيات تقشفية كان فيها الموظفون والعمال هم الضحية ما يجعلهم يلتحقون بصفوف العاطلين والذين تضعهم المؤشرات الرسمية عند نحو 17.4 في المئة من تعداد السكان النشطين بنهاية الثلث الأول من 2021 قياسا بنحو 15.3 قبل عام.

لقد شكّلت التحذيرات طيلة أشهر من دخول الشركات في أزمة عميقة لا يمكن التكهن بنتائجها بسبب تداعيات أزمة كوفيد – 19، إقرارا بفشل الخطط الاحترازية للحكومة مع دخول الاقتصاد برمته في خمول ربما سيطول نظرا لتأثره بما يحصل في العالم وأيضا لبطء حملة التلقيح ضد فايروس كورونا. وهنا سنكتفي بمراقبة ماذا سيحصل في ما تبقى من العام في ظل استمرار التجاذبات السياسية العقيمة.

إن الخسائر التي تكبّدتها معظم القطاعات الإنتاجية خلال فترة الإغلاق تعتبر ضربة كبيرة لجهود الحكومة الساعية إلى دفع مؤشر البطالة إلى النزول، خاصة وأن الشركات دفعت ثمنا باهظا للإجراءات الاحترازية. وهذا الأمر سوف يصدّع أسس الاقتصاد المبني أصلا على ركائز هشة بفعل عدة عوامل هيكلية.

تبدو الخيارات أمام حكومة هشام المشيشي محدودة لإنقاذ وضعية الشركات، التي أفلس بعضها، من صدمة الجائحة نتيجة التركيز على مجالات أخرى ذات أولوية، وفي مقدمتها الرعاية الصحية، وبالتالي فإن عودة الأنشطة إلى الحياة مرة أخرى، وخاصة المحركات الاستراتيجية للنمو، ستكون مكلفة بعض الشيء بالنظر إلى إدمان الدولة على الاقتراض. لكن تمويل النظام المصرفي للاستثمارات والأعمال سيكون له تأثير كبير.

في المحصّلة، يحتاج النظام المصرفي إلى إصلاح عميق حتى يكون منسجما مع كل الظروف لأن توفير التمويلات اللازمة للشركات سيحرّك خيوطا كثيرة، بدءا بالتشجيع على الاستهلاك مرورا بتنمية الصادرات تدريجيا وصولا إلى تحصيل عوائد إضافية لخزينة الدولة وقطاع الأعمال، وفي الوقت نفسه الارتقاء به باعتباره يمثل أحد القطاعات الاستراتيجية للبلاد.

11