الأقصر روحًا وتاريخًا في معرض تشكيلي جماعي

فنانون معاصرون يوقظون صوت الجبل ويستحضرون طقوس المعابد.
الخميس 2021/03/11
أعمال معاصرة مستوحات من تاريخ عريق

المدن التاريخية والأثرية ليست مجرد أمكنة، إنها خرائط حية، بشرية وروحية، وصفحات سحرية تتحدى الزمن، ومنها نجد مدينة الأقصر في جنوب مصر والتي تحتضن معابد الفراعنة وكنوزهم الحضارية والفنية، وتنصهر في علاقة خاصة مع نهر النيل والأشجار والجبال ومفردات الطبيعة الباذخة التي كانت محور معرض فني جديد.

التقى فنانون معاصرون من أجيال مختلفة حول الأقصر كثيمة تشكيلية خصيبة، وذلك في معرض جماعي انتظم مؤخرا في غاليري “خان المغربي” بحي الزمالك العريق في وسط القاهرة.

التحدّي الذي خاضه المشاركون في معرض “الأقصر مدينة الفن” هو كيفية تجاوز الصيغ التشكيلية الحداثية والتجريدية، المعاني الضيقة لتسجيل مشاهد الواقع الراهن المألوفة ومحتويات التاريخ المعروفة عبر تمثلات فنية مغايرة تتعاطى مع الحياة اليومية الكائنة في مدينة الأقصر في العصر الحالي، وفي الوقت ذاته فإنها تستلهم الموروث والأثري وتستحضر الطبيعة وتفجّر روح المكان وفلسفة شخصيته الخاصة.

علاقات دافئة

سيرة البشر والطبيعة على ضفاف النيل
سيرة البشر والطبيعة على ضفاف النيل

عبر مجموعة من اللوحات والمنحوتات بخامات متنوعة أبحر الفنانون في فضاءات المدينة، مازجين البشر والأمكنة في تكوينات ذات أبعاد مزاجية مركبة، كما انفتحت البورتريهات على الانفعالات الداخلية والعلاقات الثرية الممتدة منذ القدم بين الإنسان وكل من النهر والجبل والشجر والمعابد المقدسة وغيرها من معالم الأقصر.

وتعد معالم الأقصر متحفًا مفتوحًا لكثرة آثارها وكنوزها البصرية الباقية إلى يومنا هذا، ما زاد من صعوبة الرهان الذي خاضه الفنانون المشاركون بالمعرض، ومنهم إياد عرابي، أمل جمال، ناجح العشري، شذى خالد، صلاح شعبان، محمد عرابي، فاطمة عبدالله، نديم عرابي ونوران سعدي.

وقدمت النحّاتة أمل جمال تمثالين في المعرض أحدهما من حجر التلك أو الهمر الأخضر يشتعل بالحياة والنبض، ويكتسب الشكل فيه حركة أنثوية مرنة مليئة بالرشاقة، والثاني من خشب الكايا لامرأة تمسك فستانها بأسلوب يبرز جمالياتها ويشع بهجة وإثارة.

وتوضح في تصريح لـ”العرب” أن نشأتها وإقامتها منذ الصغر في “القرنة” بمحافظة الأقصر وراء افتتانها بالتشكيل، إذ يصعب الفكاك من أسر البيئة المحيطة بها، سواء على مستوى الأعمال الفرعونية المنتشرة، أو صناعات أحجار الألباستر والبازلت والهمر والحجر الرملي والجيري السائدة بالمنطقة.

 وفي هذا المناخ تقول إنه “لا يمكن للفنان الانسلاخ من جذوره مهما اتجه إلى التجديد والتجريب، فهناك دائمًا علاقة وطيدة مع التاريخ والآثار والنقوش، وهذا الرصيد يدفع الفنان المعاصر إلى الاحتفاء بالحياة والتعبير عن واقعه بصيغ ملائمة تبرز الخصوصية ولا تهدر الأصالة وملامح الهوية”.

وتؤكد التشكيلية المصرية أنها وفناني المعرض عكسوا أبرز وأعمق ما يتعلق بالبشر والطبيعة والبيئة في المدينة التاريخية الأثرية، واستدركت قائلة “ليس المهم نقل المَشاهد أو رسم البورتريهات أو نحت الأجساد، وإنما تصوير الروح والمشاعر والعلاقات الحية، حتى ولو مع الجبل والأثر والنهر والشجر، وهي علاقات دافئة حميمة شأنها شأن العلاقات بين البشر بعضهم بالبعض، ولذا جاءت الألوان عادة محمّلة بقدر من الإشراق، عبّرت عنه درجات الأصفر على وجه الخصوص، للإحالة إلى الشمس وطبيعة المناخ بالأقصر”.

البحث عن الذات

وجوه بملامح دافئة
وجوه بملامح دافئة

شارك الفنان ناجح العشري في المعرض بلوحتين التقت فيهما وجوه البشر ومشاعرهم المتأججة ونبض الأمكنة، وجاءت الملامح الجسدية والنفسية تعبيرًا عن الشخصية المصرية عبر التاريخ، منذ العهد الفرعوني، مرورًا بمصر القبطية والإسلامية، وصولًا إلى العصر الحديث.

يقول الفنان في تصريح لـ“العرب” إنه قدّم لوحتيه بعبارات من التراث المصري القديم جاء فيها “السلام عليك أيها الإله الأعظم إله الحق. لقد جئتك يا إلهي خاضعًا لأشهد جلالك، جئتك يا إلهي متحليًا بالحق، متخليًا عن الباطل، فلم أظلم أحدًا ولم أسلك سبيل الضالين”.

ويوضح العشري أن اللوحتين تطرحان قضية الهوية أو البحث عن الذات “مَنْ أنا؟”، وتعكسان حيرة الفنان إزاء اكتشاف نفسه وكل ما ومَنْ حوله من عناصر وعلاقات متشابكة، ومن دواعي حيرته “وقوعه في خضم تأثره بالحضارة القديمة المهيمنة على المنطقة، ما جعل رغبته قوية في إثبات أنه قادر على الفعل والإتيان بإبداع جديد، والتعبير الفردي المختلف عن منحنى الزمن وحركة التاريخ وتغيرات الأمكنة وتطورات البشر”.

صيغ مبتكرة

اللوحات والمنحوتات كانت بخامات متنوعة مزج فيها الفنانون بين البشر والأمكنة في تكوينات ذات أبعاد مزاجية مركبة

ومن هؤلاء التشكيلي نديم عرابي الذي بنى لوحته على عنصرين هما الإنسان والعجلة، ومن خلال تضافرهما معًا في لوحة بالوسائط المتعددة، أمكن تجسيد صورة تعبيرية رمزية عن إنسان معاصر يرتبط بذاتية الفنان، ويعكس حالات الصراع الداخلي والخارجي على أكثر من مستوى.تنوّعت تيارات الفنانين واتجاهاتهم في معرض الأقصر الجماعي، وقدّم بعضهم صيغًا مبتكرة ورؤى حداثية، حيث لم تمنعهم الثيمة ذات الطابع التاريخي والأثري من التجريب.

من هذه الأعمال التجديدية أيضًا لوحة الفنانة شذى خالد، وفيها لضمت تاريخ الأقصر والموتيفات الشعبية في نسيج واحد، تضمّن العرائس والدمى والأراجوزات والأيقونات البصرية الموروثة وغيرها من عناصر الفلكلور ومفردات البيئة المحلية، وشحنت المشهد بالألوان الصاخبة المعبّرة عن زخم الحياة في المدينة العاشقة للشمس.

15