استعادة "باريس الشرق" حلم مشحون بماض أسطوري

انطلق مشروع القاهرة الخديوية عام 1863 على يد الخديوي إسماعيل والذي كان يهدف إلى بناء عاصمة حديثة بعيدة كل البُعد عن تلك المدينة العثمانية التي كان يرى أنها تنتمي للعصور الوسطى. وبالفعل بنيت مدينة لقّبها من زارها من الرحالة والمستكشفين الأوروبيين سابقا بـ"باريس الشرق". لكنّ هذه المدينة العريقة لم تصمد أمام التحولات وطالتها يد الإهمال وفقدت الكثير من سحرها، فيما تحاول مصر من جديد إحياء أهم معالمها واستعادة جمالياتها عبر عمليات ترميم وعناية، لكن هل يكفي ذلك؟
حدثان جديدان شهدتهما القاهرة مؤخرا أثارا الشجون مرة أخرى حول الهوية المعمارية المهدرة والمفقودة بمصر كوجه من وجوه الحضارة والنهضة وركيزة من ركائز شخصية المكان والإنسان. الأول الإعلان الرسمي عن مواصلة مشروعات تطوير القاهرة التاريخية (الخديوية، والفاطمية، والمملوكية، والفسطاط)، والحلم بعودة “باريس الشرق” على الأرض وتحقيق ترويج سياحي ومكاسب اقتصادية.
وأما الحدث الثاني فكان إقامة معرض ضخم بدار الأوبرا للتغني والإشادة بجماليات العمران المصري القديم، المتأثر بالمدرسة الإيطالية، كما في بعض الأبنية الأثرية المتناثرة هنا وهناك، مثل المتحف الإسلامي ومعهد الموسيقى العربية ومسجد عمر مكرم ومستشفى أبوالريش بالقاهرة، وقصر المنتزه ومسجد المرسي أبوالعباس بالإسكندرية، وغيرها.
الحضارة مفهوم أعمق
من تفاصيل هذين الحدثين، تنطلق التساؤلات: هل يمكن أن ترجع عقارب الزمن إلى الوراء لتقفز من الذاكرة إلى حيّز الوجود قاهرة أخرى، ومصر أخرى؟ وكيف تنفصل هذه البنايات التاريخية والمناطق العريقة الجاري الاحتفاء بها عن واقعها الخرب، لتتحدث أبجدية مختلفة عن لغة الحاضر المختنقة بالضجيج والفوضى والتلوث وضعف الفاعلية الإبداعية وخفوت التأثير الفكري والفني والثقافي؟
مشروعات مصر لاستعادة القاهرة الخديوية والفاطمية غير قادرة على استرجاع باريس الشرق دون قوة ناعمة مؤثرة
لا يمكن استيعاب معنى المكان حال تعليقه في الفراغ، فالمفهوم الجوهري العميق للمكان لا يكتمل أبدا إذا تم تجريده من تمثلاته البشرية، وجرى انتزاعه من إحداثياته الزمنية، إذ يبدو المكان في تلك الحالة مجرد خارطة صماء، أو جزيرة ذكريات ونوستالجيا معزولة عن السياق التاريخي.
إن صيرورة المكان تتأتى من سيرورته واشتباكاته التفاعلية مع الناس في توقيتات معينة. ومع تغير الظروف والملابسات الإنسانية واللحظية يتحول المكان إلى آخر مختلف حتى لو تم استنساخه كما هو من الوجهة الفيزيائية، فهو في الأصل كائن حي تتقمصه روح دينامية تصف جوهره.
هذا شأن المكان العادي، على وجه العموم. أما المكان ذو الطابع الحضاري، فمن المؤكد بشكل خاص أنه أكثر حساسية للتأثير والتأثر بهذه المعطيات الظرفية التي تخلع عنه معناه الحقيقي وفق محددات بعينها.
من هذا المنطلق يتعذر الحديث عن أن المدن والأحياء التاريخية الغابرة من الممكن استعادتها على الأرض من جديد من خلال استحضار معمارها البائد وترميم ما تبقى منه، فالحضارة مفهوم أعمق وأشمل من تخطيط أمكنة منقوصة الحيوية مبتسرة الطاقة، تحيط بها العشوائيات، وتدمرها أدخنة العصر ويغزوها التلوث والضجيج، وتتراجع قوتها الثقافية الناعمة.
الحقيقة والخيال
إن أمكنة كانت تؤدي دورا تنويريّا، تثقيفيّا وإبداعيّا، مثل المسرح اليوناني بالإسكندرية مثلا الذي يعود إلى القرن الرابع الميلادي، أو حديقة الأزبكية، وشارع محمد علي، وشارع عمادالدين، وتنتمي إلى القاهرة الخديوية في القرن التاسع عشر، لا يعني تحويلها إلى مزارات أثرية أو رموز تاريخية في العصر الحالي أن دورها الإشعاعي قد عاد من جديد، أو أن عصر النهضة قد حل محل عصرنا.
العمارة ليست مجرد وعاء للحضارة، إنما هي بحد ذاتها قلب الحضارة ونبضها، بقيمها الإنسانية وأسسها الهندسية وطاقتها الروحية. وإذا كان قدماء المصريين هم بناة المعرفة، فذلك لأنهم أسهموا في تعليم البشرية كيف يجري تصميم المباني وتشييدها وفق عقيدة الخلود، في منظومة دقيقة تقترب من الكمال، على الرغم من استخدامهم أدوات بدائية لا تُقارن بمعدات البناء الحديثة.
في العصر الإسلامي أيضا، انفردت مصر بعمارتها الخاصة، التي حفظت لها هويتها من خلال القباب والصحون والمشربيات والبوابات والأحواش وغيرها. وفي المرحلة الخديوية، راهنت القاهرة على مدارس العمارة الأوروبية والانفتاح الحُر على الآخر الغربي، بهدف أن تكون “باريس الشرق”، حقيقة وإنتاجا وإشراقا وزخما، لا بترديد شعارات برّاقة وعناوين عريضة.
وتعمل الحكومة المصرية على قدم وساق، من خلال المجلس الأعلى للآثار وجهاز التنسيق الحضاري ووزارات الثقافة والأوقاف والإسكان والسياحة وغيرها، بالتنسيق مع منظمة اليونسكو، على التقريب بين الخيال والحقيقة في ما يتعلق بتطوير القاهرة التاريخية، ونفض الغبار عن المناطق العريقة التي طالتها يد الإهمال منذ سنوات طويلة، وهي محاولات إيجابية تُحتسب في مجملها في إطار حماية الآثار وإنقاذ روائع النسيج العمراني الموروث.
وتتعاطى خطط التطوير مع جميع أجزاء القاهرة التاريخية: الفاطمية والمملوكية (قاهرة المعزّ) في الجزء الشمالي، والقاهرة الخديوية في وسط البلد، وقاهرة الفسطاط أو العسكر.
ويشتمل جدول الأعمال الجارية على ترميم الأبنية الأثرية وتطويرها، وحماية المناطق السكنية حولها، وتطوير واجهات العمارات، وتوحيد الألوان واللافتات، وإزالة التشوهات، والحفاظ على الحرف اليدوية والصناعات التقليدية، والإبقاء على الروح التراثية، إلى جانب ملء الفراغات بإنشاء مناطق خضراء وممرات مشاة ومرافق حديثة جاذبة وأسواق ومقاه ومطاعم وحدائق ترفيهية وخدمات عامة.
وليس من شك في جدوى هذا الارتقاء، الذي بدأت ملامحه ترى النور فعليّا، وأنه قد يكون حافزا تنشيطيّا لحركة السياحة المحلية والعربية والعالمية، وإحداث حراك اقتصادي، واجتذاب شركات الاستثمار العقاري والفندقي وغيرها، لاسيما في القاهرة الخديوية، بوصفها المنطقة الأبرز في القاهرة التاريخية، إذ تقع بين ميداني التحرير والأوبرا مرورا بميداني طلعت حرب ومصطفى كامل، وتشمل وسط البلد وحديقة الأزبكية وسوق العتبة وغيرها من المناطق الحيوية، التي تعاني الإهمال والاختناق والتكدس وتدهور البيئة المناخية والعمرانية.
ومن نجاحات الإعلان عن القاهرة التاريخية، انضمام المدينة إلى شبكة اليونسكو للمدن الإبداعية في مجال الحرف اليدوية والفنون الشعبية، وتتيح تلك الخطوة تطوير الأسواق والمناطق الشعبية والحرف اليدوية خصوصا المهددة بالاندثار بالتعاون مع اليونسكو.
ولا تبتعد تفاصيل الكثير من مخططات التطوير الأخرى عن الممكن، بشرط تنفيذها وفق معايير موضوعية ودراسات مستفيضة وميزانيات ملائمة، وأن تسند إدارتها إلى خبراء مختصّين، وتنجو من المخالفات المالية التي وصمت المشروع في بداياته.
والأهم، أن تنعقد تلك الخطط تحت مظلة حماية الآثار والحفاظ على التراث ومقاومة القبح، وليس تحت شعار استعادة الماضي الأسطوري، وتحويل القاهرة إلى متحف مفتوح، وقبلة للعالم، وعاصمة للشرق، وما إلى هذه المبالغات الفضفاضة التي يجري الحشد الإعلامي لها على نحو دعائي مضلل مثير.
ترميم الحلم

يبدو ترميم المباني الأثرية والأحياء التاريخية في القاهرة الخديوية أمرا قابلا للتصور، أما ترميم الحلم القديم فإنه ضرب من ضروب المستحيل. وتُنسب القاهرة الخديوية إلى الخديوي إسماعيل، الذي زار العاصمة الفرنسية باريس عام 1867 لحضور معرض عالمي هناك، فأبهرته عاصمة النور، فطلب من الإمبراطور الفرنسي أن يعهد إلى الخبير هاوسمان الذي أنجز تخطيط باريس مهمة تخطيط القاهرة لتكون باريس الشرق.
وتحققت تفاصيل كثيرة من حلم باريس الشرق على نحو ملموس خلال خمس سنوات من عهد الخديوي إسماعيل، ليس على الصعيد المعماري فحسب بطبيعة الحال، بل من خلال منابر وركائز ثقافية وفنية مشرقة، حملت على عاتقها إعلاء شأن القاهرة كصرح حضاري تنويري متكامل. فماذا تبقى من ذلك الحلم؟ وأين تفاصيله الآن في خارطة الترميم والإحياء المأمولة للقاهرة، على النحو الدعائي المطروح؟
من أبرز ما تضمنته القاهرة الخديوية القديمة من معالم ومنابر ومراكز إشعاعية ثقافية وفنية ومنصّات للاستنارة: دار الأوبرا الخديوية، حديقة الأزبكية، مسرح الأزبكية، شارع محمد علي، شارع عمادالدين، وغيرها، وامتدت نشاطات هذه المنشآت إلى عهد غير بعيد، وشكلت واجهة القوة المصرية الناعمة قبل أن يضمحل دورها لظروف وملابسات مختلفة.
والأوبرا، التي تعد الأولى في أفريقيا والشرق الأوسط، أسند الخديوي إسماعيل إنشاءها لمهندسين إيطاليين في 1867، وافتتحت في احتفالات قناة السويس عام 1869 بمعزوفة للإيطالي فيردي، وتعرضت لحريق جزئي في 1952، واحترقت بالكامل عام 1971، وحل محلها “جراج الأوبرا” لاحقا.
ومثلما شهدت الأوبرا الخديوية عمالقة الفنون من مصر والعالم، فقد شهدت حديقة الأزبكية ومسرحها نبوغا فنيّا استمر حتى وقت قريب. وقد تم إنشاء الحديقة كواحدة من أجمل الحدائق النباتية في 1872 على يد مهندس فرنسي. أما المسرح فبناه إيطاليون بتوجيه من الخديوي إسماعيل، وظل بعد ثورة يوليو 1952 من أبرز الصروح العربية التي تقدم الموسيقى والغناء والحفلات متعددة الألوان، كما قدم العروض المسرحية والشعرية والغنائية الجادة لجورج أبيض وسيد درويش ونعمان عاشور ويوسف إدريس وألفريد فرج ونجيب سرور وصلاح عبدالصبور وغيرهم.
واحتضنت باريس الشرق أيضا شوارع ذات طبيعة ثقافية وفنية خاصة، منها عمادالدين بقلب القاهرة أو “شارع الفن”، على غرار “البوليفار” الباريسي، وحفلت بالعشرات من المسارح ودور السينما، منها: مسرح الريحاني، مسرح الرينسانس، مسرح بديعة، سينما الشعب، سينما كوزموس وسينما ديانا.
أما شارع محمد علي فهو أحد المراكز الفنية الشعبية المفتوحة في القاهرة الخديوية، أسسه الفرنسي هوسمان على نمط شارع ريفولي الباريسي، وعرف لسنوات طويلة بأنه ملتقى الفنون الشعبية والشرقية بمصر، فضلا عن اشتهاره حتى يومنا هذا بببيع الآلات الموسيقية، خصوصا الوترية.
وتعتمد فلسفة مشروع التطوير الحالي في القاهرة الخديوية على الحفاظ على الأبنية التاريخية المتبقية، وما حولها، وترميمها وفق شكلها الأصلي وطابعها المميز، وهو أمر محدود بالقياس إلى فكرة تخليق عاصمة للنور. وحتى هذا الأمر المعماري الضيق فإنه يتم وفق ميزانيات ومنح مادية يراها البعض غير كافية، وكفاءات قد تفتقد أحيانا سرعة الإنجاز، الأمر الذي دعا إلى تأجيل إتمام مراحل المشروع إلى ما هو أبعد من المدى الزمني المحدد، مرة تلو الأخرى، خلال السنوات الماضية.
وبعيدا عن النتائج الإيجابية التي جرى تحقيقها بشأن تطوير بعض الأمكنة وإنقاذ بعض البنايات، فإن استعادة المناخ المقترن بالقاهرة الخديوية كباريس الشرق، ثقافيّا وحضاريّا وفنيّا، أمر يبقى خارج نطاق التقديرات وفضاء الأحلام. فمثل ذلك التصور الافتراضي، المحاصر بالأبنية الحديثة العشوائية والضجيج والأدخنة يعني استحضار زمن آخر وأناس غائبين.
وتشكل القاهرة واحدة من أسوأ عواصم العالم من حيث التلوث الهوائي والاحتباس الحراري، بفعل الرصاص والكربون والمخلفات الصلبة والغبار والأتربة، وتعدّ من أكثر المدن ضجيجا، الأمر الذي يعكر كثيرا صورة باريس الشرق التي تتوق إليها القاهرة الخديوية الراهنة.