معرض القاهرة الدولي للكتاب يفقد برنامجه الثقافي والفني

بعد تردّد بين أمرين أحلاهما مُرّ هما: الإلغاء، والانعقاد المشروط، أسفرت اجتماعات اللجنة الثقافية العليا لمعرض القاهرة الدولي للكتاب برعاية وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبدالدايم وحضور هيثم الحاج علي رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهي الجهة المنظّمة للمعرض، عن اعتماد الاختيار الثاني، ليتم الإعلان رسميّا عن انطلاق الدورة الـ52 للمعرض في نهاية الشهر الجاري لكن بخيارات قاسية.
بعد شهور من الشدّ والجذب حول مصير الدورة الـ52 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب المؤجلة من يناير الماضي، انتهت اللجنة الثقافية العليا للمعرض أخيرا إلى إقامتها في الفترة من 30 يونيو إلى 15 يوليو 2021 بمركز مصر للمعارض والمؤتمرات الدولية في التجمع الخامس بالقاهرة.
وبدعوى إنقاذ المعرض القاهري الأعرق من الإلغاء التامّ بسبب جائحة كورونا اتخذت اللجنة مجموعة من القرارات الصادمة والإجراءات المثيرة للجدل التي وضعت المعرض أمام جملة من العواصف والأزمات والتحديات.
من أخطر هذه القرارات، غياب البرنامج الثقافي والفني، الذي طالما مَثّلَ سمة مميزة للمعرض، وَعَكَسَ شخصيته الفريدة ووجهه التنويري منذ انطلاقه عام 1969، في أثناء احتفال القاهرة بعيدها الألفي، فهل كانت النيّة مبيّتة للإطاحة بالنشاط الفكري للمعرض لصالح الجانب التسويقي؟
سوق للكتب
المحددات والترتيبات لتنظيم المعرض تعتبر قاسية من شأنها تغيير تركيبة المعرض كقوة ناعمة إشعاعية، لكنها وفق المنظمين أفضل المتاح في الوقت الراهن، لاعتبارات ماديّة في المقام الأول.
وفق هذه المستجدّات، تقرر تأجيل شخصيتي المعرض؛ يحيى حقي وعبدالتواب يوسف، والمحور الفكري “هوية مصر: الثقافة وسؤال المستقبل”، إلى الدورة التالية في العام 2022، واعتماد شعار جديد يلائم الدورة الحالية المقتصرة على الناشرين والقرّاء وبيع الكتب، هو “في القراءة حياة”، وإحالة جميع الفعاليات الثقافية والفنية إلى المنصة الإلكترونية دون حضور فعلي للضيوف المصريين والعرب والأجانب، في ما عدا حفل توزيع جوائز المعرض والنشاط المهني واجتماعات مديري المعارض.
وجرى الاتفاق على محاولة استيعاب الناشرين كافة الذين تقدموا بطلبات الاشتراك بالمعرض في المواعيد المقررة، وتحديد أعداد الزائرين يوميّا بالتنسيق مع الوزارات والجهات المعنية وفق الضوابط الصحية، وإقرار حجز التذاكر للجمهور إلكترونيا منعا للتزاحم مع التزام المنظمين والناشرين والجمهور بالإجراءات الاحترازية، واعتماد عقوبات تصاعدية على المخالفين.
وتشير هذه التحولات في طبيعة معرض القاهرة الدولي للكتاب وفلسفته وسياسته إلى اتجاهه صراحة إلى أن يكون مجرّد سوق للكتب، وهو التحوّل الذي كانت له شواهد واضحة خلال الدورتين السابقتين في 2019 و2020، على الرغم من عدم وجود أي إجراءات طارئة آنذاك، إذ لم يكن فايروس كورونا قد فرض تأثيراته بعد.
في الدورة الحادية والخمسين (22 يناير – 4 فبراير 2020)، عنيت إدارة المعرض بالمؤشرات الكمية، فكان الاهتمام الأوّل بإبراز حضور 4.8 مليون زائر لمتابعة عناوين قرابة ألف دار نشر من سائر الأرجاء، فيما تقلّص البرنامج الثقافي إلى حد بعيد كمؤشر للفعل الكيفي والتحقق النوعي، ولقيت الندوات والأمسيات المصاحبة كسادا وإهمالا، لاسيما مع كثرة اعتذارات الضيوف.
وشهدت دورة اليوبيل الذهبي في 2019 الشرارة الكبرى لتغليب الجانب التسويقي التسليعي للكتب والمنتج الفكري، على حساب القيمة الثقافية والرصيد التاريخي للمعرض وأنشطته، خصوصا وأنه جرى نقل المعرض وقتها إلى مكان بعيد في التجمع الخامس شرق القاهرة، ورفع أسعار الخدمات السياحية المقدمة للزوار مثل المأكولات والمشروبات، وكذلك رفع أسعار الدخول إلى خمسة جنيهات، وتقزيم سور الأزبكية الذي يعرض الكتب الرخيصة نسبيّا في ظل ارتفاع أسعار الورق والكتب، الأمر الذي خلع صفة الطبقية على الجمهور.
وبات المعرض هو “معرض الزيارة الواحدة”، بالنسبة إلى الكثيرين من غير القادرين، الذين لا يمتلكون مثل هذه النفقات، ولا التضحية بأجر يوم عمل كامل من أجل قضائه في هذا المكان النائي.
ضياع الرسالة
لا يبدو أن إجراءات مواجهة كورونا هي وحدها السبب في تخلي معرض القاهرة الدولي للكتاب عن برنامجه الثقافي والفني، فالكثير من الفعاليات المسرحية والسينمائية والتشكيلية الرسمية لا تزال تقام في مصر، مع تكييفها بضوابط ملائمة للظرف الصحي، دون إلغائها. لكنّ إدارة المعرض أخذت الحل الأسهل، والملائم لتوجهاتها في الوقت نفسه، وفق ما جرى في العامين الماضيين.
لقد كاد المعرض القاهري الذي اقترن قديما بأسماء قامات الفكر والأدب والفلسفة والسياسة والفن يتحول إلى ملتقى لاتفاقات الناشرين وصفقاتهم، ومتنزّه للمرفّهين، وفاترينة للإصدارات الدينية وروايات الناشئة وقوائم الأكثر مبيعًا والمطبوعات الاستهلاكية الضحلة، كما صار في آخر دوراته حديقة للمنافسات والمسابقات وألعاب الأطفال والنشاطات الرياضية والترفيهية والعروض المسلية الخفيفة المرحة، ومنفذ بيع للتحف والكريستال والإلكترونيات والأدوات المكتبية، وما إلى ذلك من لوازم تعويض البرنامج الثقافي الثقيل، بندواته ومناقشاته وقضاياه الجادة وأطروحاته الجريئة، التي ربما قد يتسلل منها “الرأي الآخر المُعارض” إلى قاعات النقاش، وهذا ما لا يُراد نهائيّا في المرحلة الحالية.
من ثمّ، فقد اتسم المعرض في العامين الأخيرين بأحادية الطرح الدعائي، وغياب الأسماء الكبيرة الفاعلة، وكثرتْ اعتذارات الضيوف في اللحظات الأخيرة بعد طبع البرنامج والإعلان عنه رسميّا، ما أصاب الندوات الجوفاء والأمسيات الشعرية بربكة إضافية، إلى جانب الأزمة الأساسية وهي خلو القاعات من الجمهور، الأمر الذي يعني عدم تمرير الرسالة الثقافية التي من أجلها أقيم المعرض في الأساس، واقتصار دوره على بيع الكتب، التي بدورها تخضع لمستجدات العصر، فلم يعد غريبا رواج عناوين تجارية من قبيل: “خطيبتي العذراء حامل”، و”شلّحْ هدومك يا زمن”، كما تكرّر كثيرا إلغاء الندوات والمحاضرات بسبب “الغياب التام للحضور”.
التحولات في طبيعة المعرض وفلسفته وسياسته تشير إلى اتجاهه صراحة إلى أن يكون مجرّد سوق للكتب
إن إدارة معرض القاهرة للكتاب التي ستعقد بعض الفعّاليات الجديدة البديلة في دورة 2021 عبر “المنصّة الإلكترونية”، قد لجأت في حقيقة الأمر إلى تلك المنصة الافتراضية في الدورتين الماضيتين، وذلك على الرغم من وجود برنامج ثقافي فعليّ فيهما، الأمر الذي يؤكد أن هناك إهمالا متعمّدا لهذا البرنامج حتى حال انعقاده، ورغبة في تقليصه تدريجيّا، إلى أن حانت اللحظة المناسبة لإعلان إلغائه رسميّا، بدعوى إجراءات كورونا.
لقد شهدت قناة المعرض على يوتيوب وصفحته على فيسبوك في أثناء انعقاد دورتي العامين الماضيين نشر فيديوهات قديمة لندوات المعرض وأمسياته الرائجة بحضور أسماء من قبيل: محمود درويش، ونزار قباني، وحسنين هيكل، وسميح القاسم، وعبدالرحمن الأبنودي، وعادل إمام، ونادين غورديمير الحاصلة على نوبل، وغيرهم. ويبدو أن ذلك قد حدث تمهيدا لتحويل هذه النشاطات الحيّة المثمرة إلى “شريط ذكريات” يجري اجتراره على هامش المعرض، لكنه يبقى خارج أنسجته العضوية، وقد تحقق هذا الغرض في الدورة 52 لعام 2021 بإعلان غياب البرنامج الثقافي، وهو ما سيقود المعرض إلى المزيد من التراجع والتجريف.