الحكومة المصرية تغلق ساحات القضاء أمام وسائل الإعلام

ظلت المحاكمات في مصر مادة خصبة لبعض وسائل الإعلام لمتابعة الجمهور واستقطابه، في ظل التضييق والجمود اللذين يعتريان الحياة السياسية، قبل أن تقرر الحكومة منع كل ما يتعلق بالمحاكمات من الوصول إلى الجمهور مهما بلغت أهميتها لدى الرأي العام، ليصبح الحظر هو القاعدة والمسموح استثناء غير مؤكد.
القاهرة – أصبح الإعلام المصري على موعد مع فصل جديد من التضييق على سياسته التحريرية، بعدما حرمت الحكومة الصحف والقنوات من بث أو تصوير وقائع جلسات المحاكمات أو نشرها دون تصريح مسبق، مع حبس المخالفين وتغريمهم ماليا.
ووافق مجلس الوزراء على إضافة مادة جديدة لقانون العقوبات، تقضي بالحبس لمدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن مئة ألف جنيه لكل من صوّر أو سجّل أو بثّ أو نشر أو عرض كلمات عن وقائع جلسة محاكمة بأي وسيلة كانت، ما ضاعف من الغضب المكتوم في أوساط الصحافيين.
واستثنت الحكومة من العقوبة الحاصلين على إذن من رئيس المحكمة والنيابة العامة والمتهم والمدعي بالحق المدني أو ممثلي أيّ منهما، ويحكم بمصادرة الأجهزة أو غيرها مما قد يكون استخدم في الجريمة أو ما نتج عنه أو إعدامه بحسب الأحوال.
وقال مصدر قضائي لـ”العرب”، إن التعديل يقضي بشكل غير مباشر بمنع تحدث القضاة ورجال النيابة والمحامين إلى أيّ وسيلة إعلامية، وأن عقوبة الحبس رسالة ترهيب ليس أكثر، لأن التجارب السابقة أثبتت اختراق التعليمات بعدم نشر معلومات تؤثر على سير المحاكمات وممارسة ضغوط على القضاء في القضايا الجماهيرية.
وعكس التحرك الحكومي، إلى أيّ درجة وصل الاستسهال بفكرة حبس صحافيين ومصورين وعاملين في مهنة الإعلام، وكيف صار ضرب حرية الرأي والتعبير أمرا جائزا ومباحا، لدرجة أن نشر صورة أو محتوى بعينه أصبح جريمة وليس خطأ.
ويعني ذلك أن كل المحاكمات سوف تكون بعيدة عن أعين الناس مهما كانت أهميتها وشغف الشارع بمتابعتها، إلا إذا كانت هناك نية للإفراج عن كواليسها، ولن يكون للإعلام الحد الأدنى من حرية النشر في أيّ قضية ولو كان ذلك بمطلب مجتمعي.
ويبدو أن الحكومة أدركت حجم تذمر الرأي العام من فكرة إصدار قرارات بحظر النشر في قضايا بعينها، لها أبعاد أمنية وسياسية واقتصادية، لأنها في كل مرة تتهم بالتغطية أو التستر على شخصيات بعينها، فتلجأ إلى تكميم أفواه الإعلام.
ويعني إبعاد الإعلام عن المحاكمات (ضمنيا) حظر النشر، لكن هذه المرة ليس بقرار، بل بنص قانوني، والأهم أن القضاء لن يكون بحاجة مجددا إلى إصدار تعليمات بمنع النشر في قضايا بعينها، لأن ذلك سوف يطبّق فعليا وبشكل دائم.
واتفق يحيى قلاش، نقيب الصحافيين السابق مع هذا الطرح بتأكيده في تصريحات لـ”العرب”، أن هناك خطة واضحة لأن تنعقد بعض محاكمات القضايا التي تشغل الرأي العام في أجواء مغلقة، بعيدا عن اللجوء كل مرة إلى حظر النشر ما يثير حفيظة الشارع.
وظلت المحاكمات مادة خصبة لبعض وسائل الإعلام، للمتابعة والتسلية واستقطاب الجمهور، في ظل الجمود الذي يعتري الحياة السياسية، والتضييق الذي تعاني منه أغلب المنابر في ما يتعلق بمناقشتها موضوعات وملفات محظور الاقتراب منها.
واعتادت الكثير من الصحف والقنوات تسليط الضوء على قضية بعينها تحظى باهتمام وشغف من جانب الشارع، على الأقل كي تستقطب إليها الشريحة التي تستهويها هذه النوعية من الموضوعات المثيرة، خاصة قضايا الرأي العام.
وميزة كواليس المحاكمات بالنسبة إلى الإعلام، أنها من نوعية المواد الصحافية التي يصعب أن يصل لها جمهور منصات التواصل الاجتماعي سوى من خلال منبر إعلامي وسيط، بعكس الأخبار التي يتم التعرف عليها دون الحاجة إلى صحيفة أو موقع أو برنامج تلفزيوني، بحكم أن الكثير من المؤسسات تنشر أخبارها على المنصات.
ويصعب فصل التضييق على الإعلام إلى هذا الحد عن وجود نية سابقة لدى مؤسسة القضاء بالثأر من منابر إعلامية تعمدت تشويه صورتها خلال الأيام الماضية، بتركيزها على قضية “نجل المستشار”، وهو الطفل الذي اعتدى على رجل شرطة في الشارع محتميا بحصانة والده.
وتناولت بعض الصحف والمواقع هذه القضية بطريقة وصفها مجلس القضاء الأعلى ونادي قضاة مصر، بأنها نالت من هيبة وصورة ونزاهة المؤسسة القضائية بشكل غير مبرر، وكأن هناك من يتعمد تشويهها لدى الرأي العام كي يفقد الناس ثقتهم بها.
وأكد (ش.أ)، وهو صحافي متخصص في شؤون القضاء، ومراسل قناة تلفزيونية رسمية، أنه صار من حق القاضي أن يسمح للإعلام بحضور الجلسات من عدمه، وقد يقتصر الحضور على المتهمين والمحامين فقط، ما يمهد الطريق لأن تكون كل متابعات الصحف والبرامج للأحكام القضائية مقتصرة على البيانات الرسمية.
وأوضح لـ”العرب”، أن المشكلة في منح رئيس المحكمة سلطة إعلام الرأي العام بالحكم النهائي من عدمه، فقد تصدر أحكام في قضية شائكة بشكل سري دون أن تنشر الصحف والقنوات كلمة واحدة، وتموت الحقيقة، خاصة في نوعية القضايا الجماهيرية، لافتا إلى أن المعضلة في قناعة الحكومة بأن إسكات الإعلام ضمانة لنزاهة الحكم بعيدا عن الضغوط.
ويُحسب على بعض وسائل الإعلام أنها تبدأ بمحاكمة أطراف قضية بعينها، قبل القضاء، حيث تأتي بأسر متهمين وتنشر أدلة إدانة وتستعين بقانونيين للتعليق ثم تتوقع الحكم، وعندما يصدر قضائيا بالمخالفة لحكم الإعلام، تثار حوله الشبهات.
وكان يمكن تقبّل صدور قرار ينظم علاقة الإعلام في ساحات المحاكم ويضبط عملية النشر في القضايا الهامة، مع وجود قانون ينظم حرية تداول المعلومات، لكن النص القانوني الأخير رسالة بأنه لا نية ليكون الإعلام سلطة مستقلة، ولا بوادر إيجابية في المستقبل بشأن السماح للصحف والقنوات بأن تغرد بعيدا عن الإطار المسموح لها.
وصارت هناك قائمة طويلة بالمنوعات في الإعلام المصري، من حظر نشر أي مادة صحافية على لسان مصادر مجهولة لو كانت خدمية، أو ترتبط بأجهزة الأمن دون بيانات رسمية، أو تقترب من المحاكمات، أو التحدث إلى القضاة وأعضاء النيابة العامة، أو بث موضوعات لها علاقة بالفساد دون العودة إلى الجهات الرقابية، أو حتى القيام بعمل ميداني دون ترخيص.
وقال خبراء إعلام، إن تطبيق حظر النشر حول كواليس المحاكمات يصعب تطبيقه حرفيا لعدة أسباب، أهمها عدم السيطرة على الفضاء الإلكتروني، ووجود العشرات من المواقع الإخبارية البعيدة عن رقابة الدولة، وهذه لا تعترف بالقيود والمحظورات وتستغل التزام الإعلام الرسمي بالتعليمات لتبادر بمهمة نشر كل ما هو ممنوع.
ولفت هؤلاء، إلى أنه عندما تنشر الصحف والمواقع الإلكترونية غير المرخصة، معلومات وقضايا محظورة على الإعلام التقليدي، فإن ذلك يمنحها ميزة تسحب من رصيد المؤسسات الرسمية المعترف بها قانونا، لأن الشريحة الشغوفة بمعرفة مستجدات قضية بعينها، ستلجأ إلى المنابر الخارجة عن السيطرة بشكل يمنحها مشروعية وثقلا عند الجمهور.
وأشار قلاش لـ”العرب”، إلى أن الإعلام الفوضوي أكبر المستفيدين من التضييق على نظيره الرسمي، وهي الفكرة التي لم تصل للحكومة بعد، وصار عليها أن تقتنع بحتمية العلانية في المحاكمات كشرط أساسي لضمان شفافيتها وترسيخ الثقة في منظومة العدالة، وهذا ما أقره الدستور، لأن السرية تثير الشكوك وتضع علامات استفهام كثيرة أمام الإعلام قبل الجمهور نفسه.