الحفاظ على قوام الأسر العربية يمر عبر التصدي لزواج الصفقة

تدفع الرغبة في الانتقال من حياة الفقر إلى حياة الرفاه والوفرة المالية العديد من الأسر إلى تزويج بناتها الصغيرات من رجال أثرياء في كنف السرّية التامة لمدة لا تتجاوز الشهر في بعض الأحيان في ما يعرف بـ"زواج الصفقة". ورغم رفض الفتاة للزيجة إلا أن الأب عادة ما يحصل بموجب هذه الصفقة على مبالغ مالية هامة.
قبل ثلاثة أعوام فوجئت الطفلة أمل عيسى التي لم يكن عمرها يتجاوز 16 عاما بقرار والدها تزويجها من ثري عربي جاء إلى مصر لقضاء العطلة الصيفية، وعندما رفضت الطفلة تعرضت للاعتداء البدني من أسرتها، حتى تمت الزيجة واستمرت مع الرجل شهرا واحدا، ثم حصلت على لقب مطلقة.
روت هذه القصة لـ”العرب” فتاة تدعى مريم (ح) كانت تعيش في منطقة الحوامدية بجنوب القاهرة، وهي المنطقة ذاتها التي تسكن فيها الفتاة الصغيرة، وقالت إن زواج الصفقة ما زال شائعا بين سكان القرى الفقيرة، حيث ترغب الأسر في الانتقال من حياة الفقر إلى الوفرة المالية ولا يمانع البعض أن يكون ذلك على حساب بناتهم.
تتذكر مريم أن الفتاة الصغيرة أمل كانت من المتفوقات في الدراسة، لكن أسرتها فضّلت تزويجها أكثر من مرة، وفي كل مرة كان الأب يشترط على العريس الذي غالبا ما يكون كبيرا في السن ألا تنتهي الزيجة بإنجاب أبناء، ويحدث ذلك بشكل سري بعيدا عن حضور المأذون، فقط تعيش الطفلة كزوجة لعدة أسابيع وتنتهي العلاقة.
ويحصل الأب بموجب زواج الصفقة أو زواج الصيف كما يسمى في بعض المناطق على مبالغ مالية معينة، وغالبا ما تكون الفتاة رافضة للعلاقة، لكنها تُجبر على ذلك من جانب أسرتها، وبحكم العادات والتقاليد والأعراف الصارمة فهي لا تستطيع إبلاغ الجهات المختصة والاستغاثة بالمنظمات الحقوقية.
ودفعت وقائع عديدة اللجنة المصرية لمكافحة الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر إلى إعداد مشروع قانون وتقديمه إلى مجلس النواب أخيرا على أمل القضاء كليّا على زواج الصفقة في مصر مع زيادة معدلات انتشاره خلال فترات الصيف، وتعامل بعض الأهالي معه باعتباره العصا السحرية التي تنقذهم من دوامة الفقر.
ويختلف زواج الصفقة عن زواج القاصرات، فالأول يشبه زواج المتعة، ويقوم على اتفاق أسرة الفتاة والزوج على أن يكون الارتباط محددا بمدة شهر أو اثنين أو ثلاثة، وكل فترة لها تسعيرتها، في حين أن تزويج القاصرات يكون بدافع السُترة والخلاص من أعبائهن والتعامل بقاعدة أن الفتاة مكانها بيت زوجها وليس أهلها.
أزمة زواج الصفقة تكمن في صعوبة اكتشافه أو إثباته لأنه يتم بغطاء سري وقد يصعب على الجهات المختصة التحقيق مع المشتركين فيه سواء أرباب العائلات أو الأزواج كبار السن، فقد تغيب الفتاة لفترة عن بيت أهلها وتعود إليهم مرة أخرى دون أن يكتشف الجيران أنها كانت مع زوجها.
ينتشر هذا الزواج بين الكثير من السوريات البسيطات المقيمات في الأردن كلاجئات، حيث يتم تزويجهن من رجال عرب من مختلف الجنسيات، ويقدم على ذلك بعض الشباب الأردني مستغلين حاجة السوريات للمال والارتباط بهن لفترة قصيرة وتركهن مرة أخرى، وهو ما انتبه إليه الأمن الأردني وقام بضبط بعض الشبكات المتخصصة في هذا الشأن خلال السنوات الأخيرة ما جعل الظاهرة تتراجع.
وينتشر هذا النوع من الزواج في بلدان عربية أخرى لكن بطريقة متشابكة مع لغة المصالح، كأن يتزوج الشاب من امرأة ثرية طمعا في مالها، وبعد تحقيق مراده يقوم بتطليقها أو الفرار بما جناه من مكاسب مادية في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها أغلب الشباب وتفكيرهم في البحث عن المال أكثر من أيّ شيء آخر.
وتظل أكبر معضلات زواج المصلحة المعروف بزواج “الصيف” أن يترك وراءه جملة من الضحايا في صورة أبرياء صغار، فغالبا ما تنجب الفتاة من الرجل الذي تزوجها بدافع الصفقة، وعندما ينهي العلاقة خلال فترة قصيرة ويختفي لا تستطيع الوصول إليه أو إثبات نسب الطفل إليه وتدخل في دوامة قد تدفعها إلى التخلص من الطفل.

ويرى متخصصون في العلاقات الأسرية والاجتماعية أن هذا النوع من الزواج يكرس الصورة الدونية للمرأة في الأوساط العربية، ويجعلها مجرد سلعة يمكن بيعها أو شراؤها بالمال أو تستثمرها أسرتها البسيطة في الهروب من دوامة الفقر، وإرغامها على الدخول في علاقة لا ترغبها لمجرد تحقيق مكسب مالي.
ويعتقد هؤلاء أن التشريعات وحدها لا يمكن أن تقضي على هذا النوع من الزواج القائم على الاستثمار الجسدي طالما أن الأمر صار أقرب إلى ثقافة تدمنها بعض الأسر بعيدا عن أعين الجهات الرسمية بدليل أن هناك قوانين مطبقة بالفعل في بعض البلدان تحارب زواج القاصرات غير أنه لا يتم تفعيلها.
وينص القانون الأردني على اعتبار مثل هذه الأفعال جريمة تصل عقوبتها إلى الأشغال الشاقة وحبس الزوج عشر سنوات لأن الضحايا مهما كانت جنسياتهن قاصرات (أقل من 18 عاما)، حتى أن مرتكب الجريمة سواء أكان وصيا أو ولي الأمر تصل عقوبته أيضا إلى عشر سنوات.
ويعاقب القانون المصري المتّهمين بتزويج القاصرات بعقوبات قريبة من التي تنص عليها التشريعات الأردنية، ورغم ذلك ما زالت تلك التصرفات موجودة على نطاق واسع حتى أن القرارات التي أصدرتها وزارة العدل بمصر في شأن محاربة زواج المصلحة لم تحقق الغرض ولم تحمِ أجساد القاصرات من الانتهاك.
الأب يحصل بموجب زواج الصفقة على مبالغ مالية معينة وغالبا ما تكون الفتاة رافضة للعلاقة لكن الأسرة تُجبرها على ذلك
واشترطت وزارة العدل المصرية قبل أربع سنوات وضع شهادة إيداع باسم الفتاة في البنك بقيمة ستة آلاف دولار تقريبا في حال كان الزوج أجنبيا، مع حظر إتمام الزيجة إذا كان فارق السن بينهما 25 سنة، وتوثيق العقد في سفارة بلاده، وهي اشتراطات لم تفعّل أو يتم الاعتراف بها سواء من الأهل أو الزوج.
ورأت عبير سليمان الباحثة في القضايا الأسرية والحقوقية في مجال المرأة، أن انتشار زواج الصيف يعكس انهيار قدسية الزواج عند بعض الأسر في المجتمعات العربية، واستمرار التعامل مع جسد المرأة باعتباره تجارة رابحة، وهذه جريمة إتجار بالبشر واغتصاب أيضا.
وأضافت لـ”العرب” أن التشريعات التي تستهدف القضاء على الاستثمار في الأنثى من جانب الأسرة لن يُكتب لها النجاح طالما أن الوصول إلى المتهمين عملية صعبة، ويتم التستر عليهم أحيانا، وتتعامل بعض المناطق مع هذه السلوكيات باعتبارها طبيعية وليست محرمة، وهنا يبرز دور التوعية خاصة للفتيات أنفسهن.
وقالت سليمان إن تحجج بعض الأسر بالفقر لتمرير زواج الصفقة (الصيف) محاولة للتغطية على الجريمة والتماس الأعذار من المجتمع، لافتة إلى ضرورة وجود رقابة طوال الوقت على المناطق التي تشيع فيها زيجات المصالح وتعهد الأسرة كتابة بعدم ارتكاب هذه التصرفات تجنبا للعقوبات القاسية، إذ لا بديل عن الترهيب.
وتكمن المعضلة الأكبر في أن المؤسسات الدينية ما زالت بعيدة عن مواجهة هذا الزواج لعدم الإيحاء بأنه موجود أصلا أو محاولة لتجنب لفت النظر إليه حتى لا يصبح ظاهرة مجتمعية، لكن في الحالتين صار مطلوبا أن تكون هناك مواجهة على أساس ديني بالتوازي مع التوعية الثقافية والإعلامية والتربوية.