تجديد الخطاب الديني في المسلسلات المصرية.. غياب لا مبرّر له

فتح نجاح بعض المسلسلات التي ناقشت قضايا التطرف والإرهاب في تغيير قناعات البعض، لطرح تساؤلات عديدة حول الأسباب التي حالت دون خوض منتجي الدراما المصرية في تجديد الخطاب الديني وتوسيع مجال النقاش حول القضايا المجتمعية المرتبطة بالعقيدة، كأحد أسلحة مواجهة الأفكار المتطرفة.
القاهرة- يبدو توظيف الدراما في نقد التراث وتنقيحه من الأفكار المتشددة، مهمة قابلة للتطبيق، لكن ربما تنقصها الإرادة الفنية والسياسية، خشية الدخول مع المجتمع في صدامات لا حصر لها، مع أن تجديد الخطاب الديني وفق الكثير من المفكرين والباحثين لن يتحقّق سوى بأسلوب الصدمة لينتج عن ذلك نقاش واسع حول القضايا الجدلية.
ونادى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بسرعة تجديد الخطاب الديني والدعوي، لكن بعض المؤسسات الرسمية تتردّد في اقتحام هذا الملف بجرأة، لأنها تعلم أنه سيكون مثيرا للجدل، ويفتح بابا لمزيد من القضايا للنقاش العام.
معادلة صعبة
شهـــادات

عالجت بعض الأعمال الدرامية عددا من الأفكار في السنوات الماضية، لكن المشكلة كانت في أن كل مسلسل تم تقديمه بطريقة أشبه بالعمل الدعوي على طريقة السير الذاتية والشخصيات التاريخية، وهي نوعية من الدراما لم يعد يستهويها الناس.
ويرى مؤيّدون لاقتحام الدراما ملف تجديد الخطاب الديني أن النجاحات التي تحقّقت في مسلسلات تناولت هوامش من القضية، تعزّز فرضية إحراز الفن تقدّما ملموسا وقويا يتخطّى دور المؤسسات الدينية شريطة أن يكون تنقيح التراث من الشوائب عبر دراما اجتماعية شيقة في أحداثها، وليست بقوالب فنية جامدة تدفع الجمهور للنفور.
ويدعم هؤلاء وجهات نظرهم بأن معالجة الفن لأزمة تجديد الخطاب من خلال دراما تعتمد على الأعمال الموجهة سوف تكون لها تداعيات سلبية، ولن تحقّق الهدف المطلوب، لأن التعامل بهذا الأسلوب ينتج عنه وقوع في أخطاء ويظهر للجمهور أن الأحداث مفتعلة وغير مقنعة.
كما أن الإيحاء بأن الغرض هو فضح الفكر المتطرف قد يستفزّ الطرف المستهدف من ذلك (المتشددون) ويدفعهم للهجوم بأسانيد قد يقبلها البعض، بالتالي لا بديل عن تقديم دراما اجتماعية ذات أهداف دينية بطريقة غير مباشرة.
وقال عمر زهران، وهو مخرج وممثل ورئيس قناة نايل سينما المصرية، إن الدراما لم تقصر فقط في ملف تجديد الخطاب الديني، لكن الفن عموما تراجع إلى حد كبير عن مناقشة قضايا جيدة، إلاّ في العامين السابقين، حيث قدّم مسلسلات اجتماعية مرتبطة بقضايا الإرهاب، مع سيطرة الأفكار التي تناقش البلطجة والمخدرات والخروج على القانون والتفكك الأسري.

مسلسل تناول قضية الطلاق الشفهي والتديّن المزيف
وأضاف لـ”العرب” أن المسلسلات الاجتماعية بإمكانها معالجة قضايا دينية جدلية وتصحّح المفاهيم والأفكار المغلوطة، وما زالت مؤهلة لتحقيق نجاحات كثيرة في هذا الملف، لكن من الضروري أن يتم إنتاجها بشكل متقن، وتأخذ وقتها في التحضير، ويحتاج التصدّي لتجديد الخطاب الديني فنيا وقتا طويلا لبلورة الفكرة وجذب الجمهور عند العرض.
وبرهن زهران على ذلك بأن مسلسل “لعبة نيوتن” عندما أخذ وقته كاملا في التحضير والإعداد وتعميق الأفكار التي يتناولها نجح في جذب الناس للتفكير في بعض القضايا الدينية، لأنه ناقش ضمن القصة ملفا شائكا يرتبط بالطلاق الشفهي والتديّن المزيف، والميزة أنه لم يكن مباشرا ولم يشعر الجمهور بأنه يروّج لمعالجة مسألة فقهية.
ويعدّ نجاح مسلسل “لعبة نيوتن” الذي تطرّق لمشكلة الطلاق الشفوي نموذجا جيدا للعمل المحترف، حيث عالج القضية دون صخب ونجح في إقناع الناس بأهمية توثيقه، وهي قضية ألحّ الرئيس المصري على إصدار فتوى حولها ولم يستجب الأزهر له، بينما مسلسل واحد قلب الطاولة عليه وجعله مضطرا للتفكير في المسألة.
وأكّد عبدالغني هندي عضو مجمع البحوث الإسلامية أن أيّ مجتمع متدين لا يمانع في إنتاج الفن الذي يحمل رسالة وقيمة دينية، وبإمكان الدراما أن تقتحم قضايا شديدة الجدلية والخلاف الفقهي وتغيّر قناعات الناس حولها، لكن ذلك يتطلب معالجة دقيقة ومحسوبة بميزان حسّاس كي لا يتم الاصطدام مع ثوابت تدفع المتشددين لتحريض الناس ضد هذا النوع من الفن.
وأوضح لـ”العرب” أنه “لا مانع مطلقا من تقديم دراما تستهدف نقد التراث، طالما أن المعالجات منطقية وعقلانية، وميزة وجود إنتاج فني متخصّص في ضرب المعتقدات المغلوطة التي شوّهت صورة الإسلام أنها تقضي على صوت المتطرفين في قضايا خطيرة على أمن المجتمع، لأن ما تنتجه المؤسسة الدينية أقل بكثير من حضور الخطاب المتشدد”.
خلخلة الجمود
يؤكّد البعض من النقاد أن إنتاج فن قويّ ومؤثّر يستطيع التصدّي لتنقيح التراث يحتاج إلى سيناريو وقصة يستطيع من خلالهما العمل الدرامي دفع الجمهور لأن يكون جزءا من الحدث، ليدخل في نقاش وتفكير متعمق حول قضية تجديد الفكر المرتبط بالقضية المطروحة، وهنا تنجح أول خطوة في خلخلة الجمود.
ويعتقد هؤلاء أن مناقشة الدراما الاجتماعية لقضايا دينية أخفقت المؤسسات الرسمية في البحث عن حلول لها، لانغلاق الأفق عند قادتها أو لرفضهم التفكير في حلول، يتطلب أن تكون الحبكة الدرامية نفسها قادرة على أن تدفع الجمهور للتفكير عن حلول واقعية للأزمة المطروحة.
والوصول إلى هذه المرحلة مهمة شاقة، لكنها بداية لإقناع الناس بحتمية تغيير الفكر الراسخ عبر التراث بأنه مقدس ويصلح لكل العصور، وطالما أن الناس بدأت تفكّر في عدم صلاحية الرؤى القديمة لهذا العصر فمهمة التجديد ستكون أكثر سهولة.
ويحتاج هذا النوع من الفن إلى عوامل كثيرة لنجاحه في المهمة، على رأسها الفكرة وآلية طرحها للنقاش وطاقم الممثلين الذين يتصدّون لها، وبأي طريقة يقدّمونها للناس لدفعهم إلى أن يعيشوا المأساة التي يسبّبها لهم التراث المشوّه، بالإضافة إلى الحاجة لموارد مالية ضخمة والوقت الكافي للتجهيز والتحضير لتخرج طريقة الطرح بشكل متسلسل وبسيط ويخاطب كل الفئات المجتمعية دون انتقائية، ويضع المنتج الفني الناس في حيرة بين الالتزام بما يقرّه رجال الفتوى من أبواب التراث، وبين إعمال العقل والمنطق كأساس لبلوغ العصرنة.
ويمثل الصراع القائم بين الماضي والحاضر جوهر أزمة تجديد الخطاب الديني. لأن التراث القديم يعتمد على النقل ويلغي العقل ولا يتيح الفرصة للجمهور ليفكّر في المعلومة بل يطبّقها دون نقاش، وهنا تأتي مهمة الفن، بأن يمنح الناس فرصة التفكير كمدخل لوقف النقل من التراث وتطبيقه والالتزام بنصوصه بعيدا عن الاشتباك مع ما يتضمنه من خرافات.
الصراع القائم بين الماضي والحاضر يمثل جوهر أزمة تجديد الخطاب الديني، لأن التراث القديم يعتمد على النقل ويلغي العقل
وشدّدت الناقدة الفنية ماجدة خيرالله، على أن تصدّي الدراما لعصرنة الفكر ونسف المعتقد الخاطئ لن يُكتب له النجاح بعمل فني واحد أو اثنين، والقضية تحتاج إلى حملة واسعة من المسلسلات التي تستهدف تجديد الخطاب وضرب قواعد التشدد بطريقة غير مباشرة، مع حتمية أن تكون هذه الدراما ممتعة للناس لجذبهم لمتابعتها عن قناعة.
ولفتت لـ”العرب” إلى أن الدراما بإمكانها تحقيق نجاحات كبيرة في القضايا الدينية الجدلية، لكن ذلك يتطلب احترافية في الكتابة والتصوير والديكور والإخراج وكل مكملات العملية الفنية، مع تكاتف الحكومة لتسهيل المهمة، لأن النجاح لن يتحقّق دون إرادة سياسية قوية، ولا يمكن التصدّي للخرافات بالفن وهناك برامج تلفزيونية تستضيف شخصيات تروّج للتشدد الفكري.
وإذا تحقّقت هذه الخطوة بقناعة وإرادة سياسية، فتجديد الخطاب الديني عبر المسار الفني سيحتاج فقط إلى طمأنة طاقم العمل أنفسهم بأن تهمة ازدراء الدين لن تطاردهم كما جرى مع بعض الباحثين الذين تصدّوا لتنقيح التراث من الشوائب وطعنوا في صحة بعض النصوص القديمة التي تتمسّك المؤسسات الدينية بتدريسها في المناهج وتستخدمها في فتاواها الرسمية.
وقالت خيرالله “لا يمكن التعويل فقط على الدراما بأن تصحّح الفكر وتعالج تشوّه الدين في العقول، فهناك ترهيب خفي لمن يحاولون الاقتراب من هذا الملف، مع ضرورة عدم اشتراط عرض المسلسل مسبقا على الأزهر للحصول على الموافقة قبل العرض، لأن ذلك ينسف الهدف والفكرة برمتها، باعتبار أن ما سيتم مناقشته من قضايا بأسلوب فني قد لا يلقى قبول رجال الفتوى الذين يتمسّكون بالتراث”.