ترهيب الأبناء لمضاعفة التفوق الدراسي يدفعهم إلى الانتحار

تحميل مسؤولية تحقيق طموحات الأسرة للأبناء يحبطهم.
الخميس 2021/06/17
الترغيب لا الترهيب

يحذّر خبراء الصحة النفسية من خطورة تحميل الآباء أطفالهم مسؤولية تحقيق طموحات الأسرة وذلك عبر تحفيزهم المتكرّر على التفوق الدراسي باستعمال أسلوب الترهيب، ما يدفعهم إلى الانتحار في بعض الأوقات. ويرى الخبراء أنه يتوجب على الآباء أن يكونوا أكثر وعيا بمسألة التفاوت في المستويات التعليمية بين الطلاب.

القاهرة - استقبل جمال فرويز استشاري الصحة النفسية بالقاهرة، قبل أيام، استغاثة من أسرة طفل لعلاجه نفسيا، بعدما ألقى بنفسه من الطابق الخامس ليسقط على سيارة كانت تقف أسفل البرج السكني الذي يقطنه ويصاب بكسور في العظام، حيث رغب في الانتحار هربا من ضغوط أسرته بسبب الامتحانات وترهيبه لفظيا بدعوى تحفيزه على المذاكرة.

ذهب الطبيب النفسي إلى الطفل بالمستشفى ثلاث مرات أسبوعيا، في محاولة لنزع فكرة الانتحار من مخيلته والتخفيف من حالة الاكتئاب التي يعيشها جراء شعوره بإمكانية الإخفاق في تحقيق التفوق تلبية لرغبة والديه، ما جعله يقدم على الخلاص من نفسه هربا من الأذى النفسي والذهني الذي لم يعد يتحمله وهو في سن صغيرة.

عندما سأل فرويز، الأب والأم عن علاقتهما بالابن، أجابا بأنهما لا يتعرضان له بالضرب، بل يكتفيان بتحفيزه دائما على النجاح لمضاعفة تفوقه الدراسي، بحيث تكون الأسرة كلها في مكانة أفضل، بدعوى أن الابن عندما يصل لمرحلة التميز وفي مسار تعليمي صاعد يصبح مصدر فخر لعائلته بين الأصدقاء والمعارف والجيران.

وقال الطبيب لـ”العرب” إن أيّ حالة انتحار لطفل أو شاب في مجتمع ما تأتي غالبا بسبب الأسرة، لأنها تتعامل معه باعتباره المسؤول الأول عن تحقيق طموحات وأحلام العائلة كلها، وهو ما يترك انطباعات سلبية ويجعل البعض يفكرون في الفشل قبل النجاح، ويقتنعون بأنهم مهما فعلوا لن ينالوا رضا آبائهم.

هالة حماد: الترهيب يشعر الأبناء بأنهم مستعدون لمواجهة الموت

وتشهد فترة الامتحانات في الكثير من البلدان العربية وقائع انتحار يكون ضحاياها من الأطفال والمراهقين الملتحقين بالمدارس أو شباب الجامعة، لكن العائلات لا تتوقف عن الضغط على أبنائها بداعي التحفيز الذي يُفهم على أنه تهديد مسبق، وأن الأسرة لن تقبل إلا التفوق وعدم خسارة الأموال التي تم إنفاقها طوال فترة التعلم.

وحتى وقت قريب، كانت محاولات الانتحار محصورة تقريبا في الشرائح الشبابية أمام غياب صناعة الأمل وضيق الحال والرسوب في الجامعة وفقدان حلم الوصول لوظيفة بعينها، لكن يبدو أن التفكير في الخلاص من النفس انتقل إلى فئات أقل في السن، مثل أطفال المدارس، وهو ما جرى في مصر مؤخرا مع انتحار أربعة مراهقين قبيل امتحانات الشهادة الإعدادية.

أزمة الكثير من الآباء أنهم مازالوا غير مقتنعين بفكرة التفاوت في المستويات التعليمية بين الأبناء مقارنة بزملائهم، وأن لكل منهم قدراته الشخصية التي مهما حاول تطويرها وتحسينها لن يصل إلى المكانة التي ترضي طموحات العائلة، وأمام ضعف المستوى والخوف من المستقبل يتم اللجوء إلى الترهيب أحيانا، ومضاعفة التحفيز في أوقات أخرى للحصول على التفوق.

وفي الحالتين، يشعر الابن بأنه يعيش ضغوطا نفسية وعصبية رغبة منه في تحقيق طموحات والديه، ويبدأ التفكير في الخلاص من هذا العبء بالانتقام من نفسه، لأنه صار عاجزا عن الوفاء بما عليه من التزامات ومسؤوليات، وغالبا ما يسبق ذلك تنام في الشعور بالاكتئاب والميل نحو الانطوائية والتزام الصمت لصعوبة التعبير عن ضعف قدراته التعليمية أمام العائلة.

وقالت هالة حماد استشارية العلاقات الأسرية بالقاهرة إن التربية القائمة على الترهيب أو التحفيز المبالغ فيه تجعل بعض الأبناء يشعرون بأنهم مستعدون لمواجهة الموت أفضل من مواجهة آبائهم، ما يعكس تراجع العلاقة القائمة على الصداقة والعاطفة بين الطرفين، حيث يخشى الابن مصارحة أبويه بمستواه الضعيف وقد يضحي بنفسه حتى لا تصطدم فيه أسرته.

وأضافت لـ”العرب” أن تحميل بعض الآباء مسؤولية تغيير أحوال الأسرة للأفضل بتفوقهم دراسيا قد يكون محفزا، لكنه يقود إلى تداعيات خطيرة عندما يشعر الابن بأنه السبب في ضياع حلم عائلته التي كانت تعوّل عليه لتنتقل من مستوى أعلى، بعد التحاقه بكلية مرموقة، وهذا عبء نفسي خطير لا تدرك الكثير من الأهالي تبعاته السلبية على معنويات الصغار.

والخطر الأكبر أن بعض الآباء في المجتمعات العربية يمارسون ضغوطا غير طبيعية على الأبناء لتعويض فشلهم كأرباب أسر في تحقيق طموحاتهم الشخصية في الماضي، فمن كان يريد العمل طبيبا ولم ينجح لا يتنازل عن التحاق ابنه بكلية الطب حتى لو كان ذلك يفوق قدراته ومستواه التعليمي، ما يتسبب في تدمير الصغار نفسيا.

صحيح أن التحفيز الأسري للأبناء يكون بدافع أبوي لتأمين مستقبلهم التعليمي والوظيفي، لكن ذلك لا يتم بحسابات دقيقة ودون مراعاة للأثر النفسي على الأطفال والشباب، ويتحول التحفيز مع الوقت إلى أداة ضغط تقود إلى اليأس والاقتناع بالفشل حتى لو كان الابن متفوقا، لكنه في النهاية لن يصل لمرحلة الإرضاء التام لوالديه.

جمال فرويز: الطفل في مرحلة المراهقة يكون عصبيا بالفطرة وشديد التوتر

وأكد جمال فرويز لـ”العرب” أن الطفل في مرحلة المراهقة يكون عصبيا بالفطرة، ويراوده الإحساس بالتوتر طوال الوقت خوفا على مستقبله الذي يحدده الآباء، ومع الوقت تزداد الضغوط بمقارنة مستوى الابن بأبناء الجيران والأصدقاء المتفوقين، كنوع من الوجاهة الاجتماعية، وهنا يشعر بأنه فاشل وقد يفكر في الانتحار.

ومعضلة بعض الأسر أنها تفتقد الحد الأدنى من الخبرة في التعامل مع الأبناء في توقيتات الامتحانات وإعلان النتائج، وتضع لأولادها سقفا محددا لا يجب النزول عنه، وعندما يشعر الابن بأنه لن يحقق الغرض المطلوب منه لينال استحسان أسرته تراوده أفكار الانتقام من نفسه كعقوبة ذاتية قبل أن يتعرض للأذى بالقول والفعل من أقرب الناس إليه.

ويعتقد خبراء في الشؤون التربوية أن سياسة الترهيب أوالأذى النفسي لا يمكن أن تحقق نتائج ملموسة مع الأبناء كنوع من تحفيزهم على التميز الدراسي، بل إن مصاحبتهم وطمأنتهم بتقبل أي نتيجة تدفعهم لمضاعفة نشاطهم لبلوغ التفوق لإسعاد آبائهم وليس لمجرد الخوف منهم، لكن ذلك لن يتحقق دون ابتعاد الأسرة عن رسم مستقبل أبنائها وسلب هذه الإرادة منهم.

ومازالت الكثير من الأسر تتحكم في اختيار نوعية التعليم والكلية الجامعية لأولادها، دون مراعاة لرغباتهم الشخصية، فيضطر الابن (أو البنت) لأن يجاهد لتحقيق هدف أسرته مع أنه لا تستهويه اختياراتها، وهذا عبء نفسي جديد بأن يجتهد ويتعب ويتميز دراسيا لمجرد إرضاء والديه، وليس تحقيق حلمه، وعندما يفشل يشعر بخيبة الأمل من الطرفين تجاه أسرته ونفسه.

واتفقت هالة وفرويز على أن التحفيز الدراسي للأبناء ضروري شريطة أن يكون بأسلوب هادئ وعقلاني ونابع من ثقة الأسرة في الصغار، وليس التشكيك في قدراتهم لدفعهم لإثبات العكس، لأنهم لو فشلوا في عبور هذا التحدي ربما يستسلمون لفكرة الانتحار وتحميل أنفسهم كل اللوم والعتاب لأنهم لم يكونوا على قدر المسؤولية التي تحملوها في سن صغيرة.

21