قصص تنسجها شهرزاد تونسية في ليل عربي طويل طويل

ربما ساهم انتشار الرواية عربيا في حجب أجناس أدبية أخرى، رغم ما لها من أهمية، لا فنية وجمالية فحسب، بل واجتماعية وثقافية وفكرية ونضالية حتى، وهو ما تبرزه قصص كاتبات تونسيات كثيرات، اخترن القصة القصيرة للتعبير عن هواجسهن، وعن أفكارهن التحررية ضد التنميط بخصوصية مختلفة. وقد خصصت مجلة "الجديد" ملفا كاملا للقصة النسائية التونسية.
شرعت مجلة “الجديد” الثقافية الشهرية، ابتداء من عددها الـ70، نوفمبر الحالي، في نهج جديد يتمثل بنشر ملف في موقعها الإلكتروني، مواز للملفات التي تحتويها أعدادها، وقد استهلت هذا النهج بملف كبير عن السرد النسوي التونسي، أعده الكاتب أبوبكر العيادي، وشاركت فيه 23 كاتبة بقصص وفصول روائية وشهادات، إضافة إلى دراسة للناقدة التونسية نزيهة الخليفي.
يقول العيادي في تقديمه إنه “ملف آخر لكتابة المرأة تقدمه ‘الجديد’ لقارئاتها وقرائها الشغوفين بالقصص التي تنسجها شهرزاد في ليل عربي طويل طويل، حتى لكأنه ليل كهف عميق لا يريد أن ينقضي. وهو محاولة لتحرير صورة المرأة من إطار اجتماعي ثابت لا يريد لها أن تظهر بكامل بهائها ولا بقدراتها الإبداعية بوصفها شهرزاد الحكاية والرواية والسرد القصصي. هذا الملف يقدم صورة بانورامية لكتابة القصة القصيرة في تونس”.
قصص وشهادات
ضم الملف إحدى وعشرين قصة لآمنة الرميلي “أنا وأنتِ و…” و”تـخُـبّ بـي النّـاقة إلى الـمـؤتـمـر”، أسمهان الشعبوني “الورقة”، رشيدة الشارني “غريب الليل” و”لحظة بوح”، وداد رضا الحبيب “نكسة”، عواطف الزراد “كلُّنا أسماء”، نافلة ذهب “ليل كلب”، نورا الورتاني “زمن الكورونا (2)” و”شهيد تأخر في السقوط”، آمال مختار “هي والأفعى” و”وصل متأخرا”، كاهنة عبّاس “في حضرة السلمجان”، أسمهان الشعبوني “طريق الخير”، حفيظة قارة بيبان “رُخام”، حياة الرايس “حمّالة البشر”، راضية قعلول “امرأة بنصف وجه”، ريم العيساوي “الحقيبة”، لمياء نويرة بوكيل “الجميلة والوحش”، نجاة إدهان “أصـابع الله” وبسمة الشوالي “ارتعاشات الميموزا”.
وكتبت شهادات الملف كل من نافلة ذهب “همّ الكتابة ومتعتها”، فوزية العلوي “بيانات امرأة المجاز: بيان أول وبيان ثان” وحفيظة قارة بيبان “حافية في مطار العالم المكسور”.
تقول نافلة ذهب “منذ الطفولة، كان همّي الوحيد ملاحقة الحكاية، أينما وجدت. كنت في صغر سنّي ولوعة بالحكايات التي يسردها لنا عمّي في بيت جدّي أيام العطل أو في ليالي الآحاد. وعندما أصبحت أجيد القراءة والكتابة شغفت بمطالعة القصص. وكان أبي يشجّعني على ذلك ويشتري لنا الكتب وكذلك كانت تفعل المدرّسات التونسيات والفرنسيات اللّائي كن يشجّعننا على المطالعة”.
القصص تكشف النشاط الإبداعي للمرأة في تونس، في لحظة يختلط فيها حلم المستقبل بهواجس الأصالة الموهومة
وتضيف “أصبحت مدمنة على قراءة الكتب، فما أن أنهي مراجعة دروسي حتى أختلي بكتابي لأعيش تسلسل الحكاية في سكون وصمت، متقمّصة حياة بعض الشخوص وكأنّني أعايشها. كان ذلك بعيد الاستقلال بقليل والتلفزيون لم يحلّ بعد في بلادنا.. بل لم نكن نسمع عنه بتاتا في ربوعنا. كنت أراجع ذاكرتي في ما أعجبني من القراءات فأعيد الجمل والحكاية معا”.
وتفاجأ فوزية العلوي في بيانها الأول القارئ بقولها “أنا امرأة زائفة، لذا لا تعوّلوا كثيرا على ما أقول ولا تلقوا الدلاء إليّ لأمطركم، فلست واثقة تماما من أنّ هذا السحاب الذي يوشّح سمائي سيكون واعدا”.
مضيفة “أنا امرأة أكره اللون الأحمر، لذلك لا أنتعل إلا الأحذية الحمراء، قل هو نوع من العداء المثالي لهذا اللون، لذلك أبيح لنفسي أن أعفّر هامته في التراب وأن أهين كبرياءه بعنجهية الدوس”.
وتعترف حفيظة قارة بيبان بأنها حين رفعت يديها بالدعاء إلى السماء، وهي طفلة، أن يمنحها الله عذابه، حتى تصبح أديبة، مستدركة “عذاب الروح لا عذاب الجسد”، ذلك الذي كانت تعرفه ككل الصغار وتخشاه، فقد سمعت في برنامجها الإذاعي الأثير أن الأدب وليد العذاب والمعاناة. حينها لم تكن تدري أن السماء ستستجيب لدعاء الطفلة التواقة إلى عالم تصنعه من خيالاتها، وأن ثنايا العذاب لن تكون تلك الخاصة البسيطة التي كانت تظن، بسذاجة الطفولة وبراءتها، بل ستمتد وتتشعب، وستفتننها في تخوم الأرض، وتسكن مساحات الروح.
كما احتوى الملف على ثلاثة فصول روائية لحفيظة القاسمي “أنحتُ شكلي من جذع الشّجرة”، فاطمة بن محمود “الملائكة لا تطير” وهند الزّيادي “المرآة”، ومقطع من رواية “زلّة خاصرة” لفتحية بن فرج.
وعي المرأة
ترى الناقدة نزيهة الخليفي، في دراستها المعنونة بـ”القصة النسائية في تونس انفتاح وتجاوز”، أن تطوّر السّرد النسائي التونسي نتيجة وعي المرأة بقضايا الواقع الاجتماعية والثقافية والفكرية وضرورة التعبير عنها بالكتابة، لذلك نوّعت على مستوى الأجناس الفنيّة من قصّة وشعر ورواية ومقالة ومسرح.. ونوّعت أيضا على مستوى البناء الفنّي، فحطّمت النموذج التقليدي القديم ورسمت لنفسها مسارا قائما على التحرّر والانعتاق من القديم، وحاملا لرؤية تسعى إلى تحقيقها عبر الكتابة، لذلك خاضت التجريب وجدّدت في أساليب الكتابة والتّعبير إيمانا منها بأنّ الكتابة هي فعل ممارسة، وفعل اختلاف، فلا كتابة خارج الاختلاف، ولا كتابة خارج الأسئلة الكبرى التي لا جواب لها.
ويعكس الملف القصصي المنشور في هذا العدد، على اختلاف مستوياته الإبداعية، بطريقة جلية المسارات الأساسية لكتابات القاصات التونسيات، من الجيل الرائد، وحتى الكاتبات الجديدات اللواتي طوّرن أساليب السرد ونوّعن في موضوعات الكتابة.
وكما تشير الناقدة الخليفي، فإن “تطوّر الكتابة القصصيّة النسائيّة التونسية يعكس بكلّ جرأة وإبداعيّة جوانب من المسار التطوّري في الكتابة القصصيّة النسائية الجديدة في تونس، وتحوّلها وانفتاحها على المغاير والمختلف نحو التجديد والتجاوز.
السّرد النسائي التونسي تطوّر نتيجة وعي المرأة بقضايا الواقع الاجتماعية والثقافية والفكرية وضرورة التعبير عنها بالكتابة
أمّا الثيمات التي تناولتها القصص القصيرة، فقد تنوّعت وتشظّت بين الذّات والأمكنة والأزمنة والمرأة والجسد.. وهي ثيمات تتداخل مع أخرى مجاورة لها ولا تقلّ عنها أهميّة. وأمّا من جهة الخصائص الأسلوبيّة والبنائيّة التي ميّزت هذه التّجارب القصصيّة المنفلتة في نشدانها للحداثة والمغايرة، فنجد توظيف العديد من التقنيات السردية واللّغة القصصيّة الجديدة والشّاعرية سواء في توسّلها بالجرأة في الكتابة والبوح، أو في ارتياد عالم الذّكورة والحديث عن التابو والمسكوت عنه”.
النصوص المنشورة في الملف بمنزلة إضاءة مساحة ظليلة من النشاط الإبداعي للمرأة في تونس، في لحظة تاريخية يختلط فيها حلم المستقبل بهواجس الأصالة الموهومة، والتطلع إلى الجديد، بأوهام استعادة الماضي، وتقع المرأة في القلب من المعركة الاجتماعية الكبرى لأجل الانتقال من ماض لا يريد أن يمضي إلى مستقبل يستعصي على الحالمين بأنواره.
ويُشار إلى أن مجلة “الجديد” ستنهج بين وقت وآخر هذا النهج، من خلال نشر ملفات على موقعها الإلكتروني، موازية للملفات التي تحتويها أعدادها، وفي جعبتها جملة ملفات مهمة قادمة، وهي تفتح الباب أمام التفاعل النقدي مع أعدادها وملفاتها وتستقبل المواد على بريدها الإلكتروني.