الدراما التلفزيونية العراقية تعلن إفلاسها

أجندات الفضائيات تغالي في إظهار سلبية الإنسان العراقي.
السبت 2021/06/19
الدراما العراقية تعيش أعنف أزماتها رغم بعض الاجتهادات

رغم أن العراق أول بلد عربي تأسّست فيه محطة تلفزيونية في العام 1956، إلّا أن الكثير من الفنانين والنقاد العراقيين يجمعون على أن الدراما التلفزيونية المحلية باتت تعيش ركودا في السنوات الأخيرة، بل إنها تدهورت كثيرا ودخلت غرفة الإنعاش، وأصبحت عاجزة حتى عن مجاراة أعمال تُنتج في بلدان عربية حديثة العهد بالدراما.

بغداد – في مفارقة عجيبة يؤكّد الكثير من الفنانين والنقاد العراقيين أن الدراما التلفزيونية العراقية عرفت ذروة مجدها في عهد كانت الرقابة فيه على أشدها، فبرزت أعمال عالية المستوى مثل “النسر وعيون المدينة”، “الذئب وعيون المدينة”، “أعماق الرغبة”، “جرف الملح”، “حكايات المدن الثلاث” و”سواد الليل”. فما هي أسباب هذا الركود؟ وكيف السبيل إلى تجاوزه؟

طرحنا هذين السؤالين على أربعة من المشتغلين المعروفين في الدراما التلفزيونية العراقية، تأليفا وتمثيلا وإخراجا، هم الكاتب صباح عطوان، الممثل والكاتب محمود أبوالعباس، المخرج عزام صالح والمخرج المسرحي والممثل مهند الهادي.

صباح عطوان: الدراما العراقية أضحت بعد الاحتلال معاقة ولاديا بكيمياوي التخلف
صباح عطوان: الدراما العراقية أضحت بعد الاحتلال معاقة ولاديا بكيمياوي التخلف

أزمة خانقة

يقول الكاتب صباح عطوان، الذي يعيش مغتربا خارج العراق منذ سنوات طويلة، إن الدراما العراقية في أزمة خطيرة منذ سقوط النظام السابق عام 2003. إنها معاقة ولاديا بعد الاحتلال بكيمياوي التخلف والهمجية، وكانت قد بدأت منذ أواخر تسعينات القرن الماضي بأعمال كان عطوان والكاتب الراحل معاذ يوسف من أبرز مؤلفيها، إلى جانب

كتّاب آخرين مميزين مثل عبدالوهاب الدايني وبدري حسون فريد ويوسف العاني. ويقول “يؤكّد العديد ممّن شاهدوا تلك الأعمال أنها دراما متميزة، وقد أصبحت جزءا من تاريخ الدراما العراقية الذي يدرسه الباحثون الأكاديميون في كليات الفنون”.

ويشير عطوان إلى أنه كتب أكثر من ستين مسلسلا طويلا، وأكثر من تسعين سهرة درامية، وما يزيد عن 12 فيلما تلفزيونيا، عدا مؤلفاته للمسرح والسينما التي تبلغ 30 مسرحية وخمسة أفلام.

وقد انحسرت هذه الأعمال إثر الاحتلال الأميركي للعراق، حيث استلم مسؤولية الإذاعة والتلفزيون أشخاص ليسوا متخصّصين، ينتمون إلى أحزاب دينية، وكان هدفهم بالدرجة الأولى الاستحواذ على الأموال المخصّصة للإنتاج الدرامي. ولذلك لم يستدعوا الكتاب والمخرجين الكبار لتقديم أعمال لائقة.

ويعرف الجميع أن هؤلاء الطارئين شغلوا كوادرها هشة أنتجت أعمالا ضعيفة للغاية من حيث البناء الدرامي للنصوص والإخراج والإنتاج، وغير قابلة للتسويق والانتشار عربيا.

وفي هذا الواقع المتدهور انحسر الإنتاج الدرامي في الفضائيات، لأنها تتعرّض إلى خسائر من دون بيعه إلى فضائيات عربية، في حين كانت تنتج سابقا أعمالا كبيرة تلقى إقبالا ونجاحا في أكثر من بلد عربي.

محمود أبوالعباس: ركود الدراما العراقية يعود إلى زمن خضوعها إلى سياسات الدولة
محمود أبوالعباس: ركود الدراما العراقية يعود إلى زمن خضوعها إلى سياسات الدولة

ويضيف عطوان متألما “لقد جرى تغييب وتهميش الكتاب والممثلين الكبار، وأصبح الفن في بطالة حقيقية، ففي هذا العام أنتج العراق 15 مسلسلا لشهر رمضان، لكن أي مسلسل منها يرقى إلى مستوى مسلسلات ‘حكاية المدن الثلاث’ و’النسر وعيون المدينة’ و’ذئاب الليل’ للكاتب الراحل عادل كاظم، أو إلى عمل من أعمال زهير الدجيلي، مثل ‘دمشق الحرائق’ و’حلب حبيبتي’، التي أُنتجت في السبعينات بالأسود والأبيض، أو أعمال الكاتب والسيناريست ثامر مهدي، رغم قلتها في التلفزيون”.

ويضيف “لا أريد أن أذكر أعمالي لئلا يُقال إنني أمدح نفسي، للأسف غابت هذه الأعمال المميزة، المحكمة جدا في بنائها الفني وموضوعاتها الحيوية التي تصدّت لقضايا اجتماعية مهمة يمرّ بها المجتمع العراقي في الماضي والحاضر. وعندما تغيب الجودة أو النوعية ينتشر الكساد”.

ويعتقد الفنان والكاتب محمود أبوالعباس أن ركود الدراما العراقية ليس وليد السنوات الأخيرة، بل يمتد إلى أبعد من ذلك، إلى فترة طويلة خضعت خلالها لسياسات الدولة. ولأن العراق دخل في حروب كثيرة فقد جرت أدلجة الدراما مثلما أُدجلت فنون أخرى. وفي فترة الحصار التي عاشها العراق أُثقل كاهل الدراما العراقية كثيرا، وتعرض المشتغلون فيها إلى الفقر والجوع.

وحول واقعها الراهن يتساءل أبوالعباس ما نفع أن تنتج الفضائيات مسلسلات لا تُسوّق، خاصة أنها بدأت تخدم أجنداتها الخاصة، أجندات تركّز على دمار العراق، وسلبية الإنسان العراقي أو ما يحط من شخصيته. وثمة مشكلة أخرى أكثر تعقيدا هي توجه بعض الفضائيات، في ظل غياب الدراما الجيدة، إلى أسلوب “الإسكيج” الدرامي ذي الحلقات المنفصلة الذي يتمثل بمجموعة مشاهد ناقدة وساخرة، من أجل تقديمها في موسم واحد هو الموسم الرمضاني.

وهذا ما جعل بعض الكتّاب يستسهل الكتابة عبر هذا الأسلوب، لكن لا نستطيع إغفال أن قسما منها جيد على صعيد المضمون والإخراج والتمثيل، مثل “بنج عام” للمخرجين علي فاضل وحيدر الشامي، و”كما مات وطن” للمخرج سامر حكمت والممثل إياد راضي. كما اعتمدت بعض الفضائيات على أعمال نمطية تُكتب لممثلين محددين.

ويقف أبوالعباس على مشكلتين أخريين، الأولى ضعف الإنتاج، ويتساءل ماذا تتوقّع من رصد مبلغ بائس لإنتاج عمل درامي في ثلاثين حلقة؟ حتما سيكون ضعيفا من الناحية الفنية، لأن ذلك يثلم من قدرة المخرج والممثلين ومن إمكانيات الكاتب في التأليف. وهذا أمر قد لا يقبل به بعض المشتغلين في الدراما لأنهم يريدون أن يعيشوا ولا يتحملوا البطالة. وثمة أيضا إكراهات أخرى أضعفت قيمة العمل الدرامي، حيث يجري الاعتماد على ممثلين غير موهوبين بسبب قبولهم بأجور متدنية.

عزام صالح: علينا التخلص من أدلجة الدراما كي يسترد المنتج العراقي عافيته
عزام صالح: علينا التخلص من أدلجة الدراما كي يسترد المنتج العراقي عافيته

المشكلة الثانية تتمثل بتوجه بعض الفضائيات إلى أعمال “السيزن” التي تتألف من عشر أو سبع حلقات، ثم تُستكمل بعشر أو سبع حلقات أخرى، وهكذا.

ويرى أبوالعباس أن “من المضحك المبكي أننا نتحدث اليوم عن إنتاج درامي. كان لدينا جيل أول مهم من الكتّاب الدراميين مثل صباح عطوان، عادل كاظم، معاذ يوسف، عبدالوهاب الدايني وعبدالباري العبودي، تلاه جيل ثان مثل علي صبري وأحمد هاتف وغيرهما. هؤلاء كتبوا أعمالا ناضجة في ثلاثين حلقة، تميزت بوحدة الموضوع، واستوعبت الكثير من الممثلين. أما الآن فإن المنتجين يقومون بإنتاج أعمال في عشر حلقات”.

تهميش ممنهج

يرجع المخرج السينمائي والتلفزيوني عزام صالح حالة الركود إلى العام 2014 حينما سحبت الولايات المتحدة كل الدعم عن القنوات الفضائية، ويضيف إلى ذلك احتلال تنظيم داعش أجزاء من العراق، وانشغال الدولة به، ممّا جعلها تركز اهتمامها على مواجهته إعلاميا، واستمر الحال حتى بعد الانتصار على داعش.

ويشير صالح إلى سبب  آخر لتراجع مستوى الدراما العراقية هو تهميش الدولة للثقافة بشكل عام، ومنها السينما والمسرح والدراما، لأنها ترى أن الفنانين الذين ينتجون الدراما محسوبون على النظام السابق. فجرت تصفية شركة بابل وبيعها، وهي قطاع مختلط مهم كان ينتج الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية ويبيعها، وقد أفضى ذلك إلى ظهور تسابق في تأسيس شركات خاصة للإنتاج التلفزيوني، قامت بإنتاج أغلب الأعمال بعد الاحتلال عام 2003. كما فُتحت منافذ أخرى هشة، كصندوق دعم الدراما، فشلت في إنتاج أعمال مميزة.

مهند الهادي: الإنتاج الموسمي سباق خيول يركض فيه الجميع للحصول على فرصة
مهند الهادي: الإنتاج الموسمي سباق خيول يركض فيه الجميع للحصول على فرصة

ويؤكّد صالح، قائلا “لدينا كتاب ومخرجون وممثلون وفنيون وتقنيون يمتلكون خبرة ومواهب ممتازة، ونحتاج إلى دعم شبكة الإعلام العراقي لتنتج وتنافس الفضائيات، وإلى أن نتخلّص من أدلجة الدراما، ونبتعد عن التسويق، ونكتفي بالسوق المحلية، وإنشاء قنوات تعرض الدراما العراقية بشكل مستمر. ونتمنى دعم الدولة للدراما والشركات المنتجة، وتأسيس شركات قطاع مشترك على غرار شركة بابل”.

ويرى المخرج والممثل مهند الهادي أن الركود في الدراما العراقية يعود إلى ما بعد 1990، حين توقف الإنتاج المشترك والتسويق، أما بعد 2003 فقد أصبح الإنتاج مزاجيا، والعاملون في المجال يعرفون أنهم أدوات بيد القنوات الفضائية وسياسة أصحابها، والإنتاج الموسمي الرمضاني سباق خيول، الجميع يركض فيه كي يحصل على فرصة.

ويرى الهادي أن ثمة محاولات تُبذل للتخلص من سلطة الإنتاج المؤدلج، وكانت تجربة لجنة دعم الدراما إحدى تلك المحاولات، لكنها فشلت للأسف، وفي تقديره أن أهم وسيلة لتخليص الدراما من ركودها وضعفها هي الدعم الحكومي أولا، وفتح قنوات عربية للإنتاج المشترك ثانيا، وبذلك تكون قد تخطت حدود المحلية إلى المشاهد العربي.

14