مغامرة البحث عن الذات في الأفلام القصيرة لـ "مهرجان الأقصر"

17 فيلما تشارك في المسابقة الرسمية للأفلام القصيرة في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، أفلام شدت انتباه الجمهور والنقاد على السواء بجدة طرحها. وفيها تحضر ثيمتا الهذيان والتحقق بشكل كبير في أكثر من فيلم بنمطيه الكوميدي والتراجيدي.
الأقصر (مصر) – سيطرت ثيمتا الهذيان والتحقق على عروض أفلام المسابقة الرسمية للأفلام القصيرة في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية الذي تتواصل فعاليات دورته التاسعة حتى الثاني عشر من مارس الجاري بالأقصر، بصعيد مصر.
17 فيلما قصيرا من ثلاث عشرة دولة أفريقية وعربية شاركت في عروض المسابقة، حيث تحضر مصر، ولبنان، وإيرتريا، وغانا، توغو، وجنوب أفريقيا، وساحل العاج، وأوغندا، والسنغال (فيلم واحد). فيما تشارك تونس والجزائر والمغرب وبوركينا فاسو بفيلمين.
ورغم مشاركة مصر البلد المنظم للمهرجان بفيلم واحد، هو “حبيب” للمخرج الشاب شادي فؤاد (28 عاما)، إلا أنه شد انتباه الجمهور الغفير الذي غصت به قاعة مكتبة الأقصر في ثاني عرض دولي للفيلم بعد مشاركته السنة الماضية في مهرجان أيام قرطاج السينمائية، بدورته الـ30.
بين ملهاة ومأساة
الفيلم الذي يشارك في بطولته سيد رجب وسلوى محمد علي اللذان حضرا العرض، تدور أحداثه حول شخصية “حبيب” (قام بالدور سيد رجب)، الرجل الستيني الذي يعمل حلاقا بأحد أحياء القاهرة. يخوض العديد من الصراعات النفسية بسبب طلب غريب تطلبه زوجته منه (سلوى محمد علي)، حيث يدخل في رحلة يكسر بها روتينه اليومي لتنفيذ طلبها.
"سينابس" فيلم للمخرج نورالدين زروقي يقدم كوميديا صامتة، من دون غوغاء عن أفكار حبيسة في دواخل الشخصيات
فبعد رحلة أربعين عاما من الزواج الناجح، كما يظهره سيناريو الفيلم الذي كتبه أيضا شادي فؤاد، بين حبيب وزوجته، تطلب منه أن يستدعي مصور أفراح كي يلتقط لهما صورا جديدة بملابس الزفاف. ومن هناك ينطلق حبيب في رحلة من التحايل وهو الحلاق البسيط المعدم، كي يوفر لنفسه بدلة الزفاف.
سيد رجب ظهر في الفيلم (23 دقيقة)، في دور مغاير تماما عن أدواره التراجيدية التي عود بها جمهوره سواء في السينما أو التلفزيون، فالكوميديا كانت مسيطرة على حركات وكلمات الفنان المصري المخضرم، الأمر الذي جعل جمهور القاعة يتفاعل معه بالضحك والتصفيق.
والفيلم الذي بدا في ظاهره كوميديا ينتهي تراجيديا، حيث تتكشف مأساة حبيب الذي يتوهم أنه لا يزال متزوجا، فكل أحداث الفيلم هي من نسج خياله وهذيانه، وهو العجوز الذي فقد زوجته وهجره ابنه الوحيد. فيستدعيها في يومياته الرتيبة، لتكون ملهاته وملاذه في عزلته.
وعن قبوله المشاركة في فيلم قصير، قال رجب لـ”العرب”، “تحمست للفيلم، لأني لم أشارك من قبل في فيلم قصير، بالإضافة إلى إعجابي بالقصة والسيناريو الطريف اللذين كتبهما المخرج شادي فؤاد”.
ويعد الفيلم إضافة في مسيرة سيد رجب، الذي ظهر في دور كوميدي أتقن تجسيده سواء بمشيته المتعرجة، أو بكلماته الساخرة، وخاصة نظراته الشاردة وهو الذي يعيش وحيدا مع ذكرياته وخيالاته في صالون الحلاقة/ المنزل أيضا.
وبكوميديا صامتة هذه المرة، أتى الفيلم الجزائري “سينابس” للمخرج نورالدين زروقي (17 دقيقة)، الذي شد بدوره جمهور مهرجان الأقصر، لطرافة طرحه وجدية موضوعه وهو الذي يروي رحلة رجلين معاقين، الأول رجله مبتورة والثاني كفيف، يركبان نفس الحافلة (الباص)، المقلة للمسافرين في طريق ممتدة بالصحراء الجزائرية. يكشف الأول سلوكيات الركاب الغريبة والمتناقضة، ويتولى الثاني إجبارهم على تغيير سلوكهم وكشف حقيقتهم السلمية.
هدوء مخيف يسيطر على الحافلة، التي تجمع كل شرائح المجتمع الجزائري، أطفالا وشيبا، نساء ورجالا، منقبات وسافرات. ورجل ملتح يضبط إيقاع الصمت والنظرات أيضا إلى فتاة شابة تجلس بجانبه تلبس فستانا قصيرا يكشف بعضا من جسدها، فينهر كل من يسترق النظر إليها، ويبيح لنفسه فقط حق التلصص عليها.
الفيلم كوميديا صامتة، لكنها معبرة دون غوغاء عن أفكار حبيسة في دواخل كل الركاب المتحفظين من بعضهم البعض، والمتوجسين مع صعود أي راكب جديد، إلى أن صعد الأعمى الذي تصرف بتلقائية غير متاحة لبقية الركاب، فأخذ يصدر صوتا وهو يأكل بطاطا مقلية (شيبس)، ليقطع صمتهم، فيتحرر الجميع ويمتد البوح بينهم.
مرة أخرى، ينتصر فيلم “سينابس” رغم الكوميديا الطاغية على أحداثه وشخوصه لثيمة التحقق، شأنه في ذلك شأن الفيلم المصري “حبيب”، وإن بدا التحقق في الفيلم المصري، من خلال استرجاع البطل لذكرياته وخيالاته، كي تكون ملاذه في عزلته، ومن هناك أتى التحقق فرديا، فإن التحقق في الفيلم الجزائري أتى جماعيا، من خلال تحقق الركاب وقطعهم مع الصمت الذي فرضوه على أنفسهم فرضا، إثر صعود الأعمى.
وفي الأعمى رمزية، أجاد نورالدين زروقي توظيفها هنا، فكونه أعمى لا يرى، لم يمتثل لقاعدة الصمت المفروض في الحافلة أو هكذا فرضوه هم على أنفسهم، أي الركاب، فتصرف على سجيته، ليحررهم من سكوتهم ويغير مسار الرحلة، ويفتح أبصارهم على الشبه في ما بينهم رغم اختلافهم، فجميعهم في حاجة للأكل وشرب ما تيسر من ماء ونحوه، لكنهم لم يفعلوا خوفا من إصدار أي صوت يزعج ربما السائق/ قائد الرحلة الصامتة، لكن الأعمى حفز فيهم روح التمرد على صمتهم. فعمت الحركة والكلام وسيلة النقل الجماعية إلى حد الثرثرة.
و”سينابس” فاز بجائزة النعامة الذهبية لأفضل فيلم في مهرجان نواكشوط الدولي للفيلم القصير بموريتانيا في طبعته الرابعة عشرة العام الماضي.
تمرد واضطهاد
بحكاية بسيطة، لكنها عميقة قدم الفيلم الأوغندي “الفستان الأسود الصغير” للمخرجة إستيري تيبانديكي (22 دقيقة) ثيمة التحقق من خلال تمرد امرأة على العادات والتقاليد البالية في بلد أفريقي ذكوري حد العظام كحال مجتمعاتنا العربية.
ينطلق الفيلم بمشهد زوج نائم على الفراش مكبل اليدين، وزوجته تستجوبه باللين حينا وبالتعذيب في أحيان أخرى، كي يعترف أنه المتسبب في عدم إنجابهما طفلا، عكس ما يشيعه هو بين أهله وأصحابه كونها المتسببة في عدم الحمل.
وينتهي الفيلم إثر اعتراف الزوج كون المشكلة فيه لا فيها، بعد أن سجلت زوجته اعترافاته وبثتها على مواقع التواصل الاجتماعي، ضمن انتفاضة نسوية تريد إعادة ضبط حياة النساء العاقرات، أو من وسمهن المجتمع الذكوري كونهن عاقرات ظلما.
قضية تبدو للوهلة الأولى مستهلكة، لكن كاميرا إستيري تيبانديكي، وهي كاتبة السيناريو أيضا، جعلت للفيلم مذاقا خاصا، كاميرا ثابتة على وجه الرجل وانفعالاته وآلامه أيضا حين تنقره زوجته بآلة حادة كي تنتزع منه الاعتراف بكونه هو العاقر لا هي، ولقطات أخرى أكثر قربا (كلاوز آب) للزوجة وهي في غرفة الحمام، أو في حضرة زوجها تسائله وتستجوبه، لتبدو انفعالاتها أكثر وضوحا في تقاسيم وجهها الذي يشي بالغضب والحنق وشعور بذنب لم ترتكبه، بل هو صنيعة عادات وتقاليد تضع المرأة دائما وأبدا في مراتب دونية وتعلي من شأن الرجل/ الذكر حتى في مسألة الإنجاب من عدمه.
وفي الفيلم التونسي “إنتي شكون؟” (من أنت؟) للمخرجة راوية مرموش (16 دقيقة)، في عرضه العالمي الأول، استعرضت المخرجة الشابة (26 عاما)، قصة حسونة (قام بالدور جمال مداني) الناشط السياسي السابق في زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وهو يعيش حياته العادية اليومية بعد إطلاق سراحه من المعتقل.
تدور الكاميرا مستعرضة بطريقة الفلاش باك، بعضا من مظاهر الاجتماعات السرية التي كان يديرها العجوز اليساري حسونة، لتتنقل الكاميرا في الزمن الحاضر مبدية ما يعيشه الشيخ في يومياته العادية من وحدة قاتلة، وتشنج في الطباع، فهو يصيح ويغضب لأتفه الأسباب حتى على ابنه الذي ينسى أنه ابنه نتيجة التعذيب الذي سلط عليه من البوليس السياسي في سنوات الجمر، الأمر الذي جعله يعاني من فقدان الذاكرة المتقطع.
الفيلم يحكي تجربة معتقل سياسي تونسي عاش في سبعينات القرن الماضي برؤية مخرجة شابة لم تكن مولودة أصلا حينها. وعمّن أوحى لها فكرة الفيلم سألتها “العرب”، فأجابت “عمّي كان معتقلا سياسيا في زمن بورقيبة، كما أنني تأثرت كثيرا بكتاب ‘كريستال’ لجيلبار النقاش، فكان الفيلم”.
تضم لجنة تحكيم “الأفلام القصيرة” المخرج المصري أحمد فوزي صالح، والمخرجة المغربية أسماء المدير والمنتج والمخرج المصري مارك لطفي، والمخرج الكيني جيتونجا توش ديفيد، والممثل الموريتاني سالم دندو.