وسائل إعلام مصرية تستثمر المآسي لاستقطاب الجمهور

انتبه المجلس الأعلى للإعلام في مصر إلى استغلال الكثير من المنابر الإعلامية لموضوعات وقضايا مثيرة للجدل في زيادة نسب المشاهدة، سواء الانتحار أو برامج وإعلانات الخرافات والأعشاب الطبية، في محاولة لتعويض إخفاقها في جذب الجمهور عن طريق النقاش الجاد للقضايا الهامة.
القاهرة - اتهم كرم جبر رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر في تصريحات صحافية الاثنين بعض وسائل الإعلام بأنها استغلت ظاهرة الانتحار في رفع نسب المشاهدة عن طريق بث الفيديوهات الخاصة بحادثة وقعت مؤخرا، وهو ما دفع المجلس إلى مناقشة بنود كود جديد لتغطية حوادث الانتحار بطريقة محترفة وإنسانية مطالبا بوقف نشر التفاصيل الدقيقة للحادث.
وطالب مجلس تنظيم الإعلام الصحف والمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية بتطبيق مجموعة من المعايير عند تغطية حوادث الانتحار، وتعهد المخالفين بإجراءات قانونية صارمة، وجاء على رأس هذه الضوابط عدم تغطية الانتحار والشروع فيه وتقديمه للجمهور على أن ذلك “تصرف إيجابي” له مبررات ودوافع.
وجاء تحرك المجلس عقب التغطية الإعلامية التي غابت عنها الكثير من المعايير المهنية لحوادث الانتحار التي وقعت في مصر، واحتلت القضية الصدارة في بعض المواقع والبرامج، وتم تسليط الضوء عليها بطريقة دفعت البعض للتعاطف مع المنتحر وظروفه والتماس الأعذار له في تصرفه.
ويرى خبراء إعلام أن الخطوة التي أقدم عليها مجلس تنظيم الإعلام تحمل دوافع سياسية لوقف ربط الانتحار باليأس والإحباط المتصاعدين، وهو ما أشار إليه جبر ضمنيا، بتأكيده أنه لا يجور استغلال حوادث الانتحار في توجيه رسائل سياسية واجتماعية بأن الشباب يتخلص من نفسه لأنه مكتئب وحياته تعيسة.
ووفق دراسات إعلامية ونفسية عديدة، فإن المعالجة الإعلامية الخاطئة لوقائع الانتحار قد تكون سببا في دفع بعض الأشخاص الذين لديهم نفس ظروف المنتحر إلى ارتكاب ذات الفعل مدفوعين بالتعاطف المجتمعي وتقديم الإعلام طرقا جديدة للانتحار، بنشر أدق تفاصيل كل واقعة وملابساتها.
صفوت العالم: أزمة الإعلام المصري أنه ورث ثقافة جذب الجمهور بالإثارة
واعتادت بعض المواقع الإخبارية والبرامج التلفزيونية استغلال وقائع الانتحار للترويج لنفسها، والتعامل مع القضية من منظور يرتبط بالسبق في نشر التفاصيل والتفرد بمعلومات جديدة عن المجني عليه وأسرته وحياته الشخصية والضغوط التي وقعت عليه ودفعته لقتل نفسه.
وقال (م .ح)، وهو صحافي بموقع إلكتروني مصري، إنه تم تكليفه من جانب رئيسه بالعمل لتغطية واقعة انتحار طالبة كلية الطب التي ألقت بنفسها من الطابق السادس بأحد المولات التجارية الشهيرة في القاهرة قبل أيام بالحصول على فيديو الحادث من رجال أمن المول، ومحاولة الحصول على تصريح من الأب بأي طريقة كانت.
وأضاف لـ”العرب” أنه طُلب منه أيضا إعداد سيناريو صحافي مكتوب باحترافية يرسم مراحل انتحار الطالبة منذ إصابتها باكتئاب بسبب ضغط الأب عليها، ومتى فكرت في التخلص من نفسها، وتصوير مكان الجريمة، والحديث مع أصدقائها عن حالتها النفسية في الفترة الأخيرة وماذا قالت لهم ومتى قررت الانتحار بالضبط.
ولفت الصحافي إلى أنه عندما أبلغ رئيسه بأن ذلك قد يقود إلى تصدير صورة إيجابية عن الانتحار بشكل مغلوط للقارئ تعرض لتهديد بإمكانية الخصم من راتبه، وإرسال زميل آخر للقيام بالمهمة، ما اضطره لفعل ما طُلب منه بنسبة كبيرة بدعوى أن الموقع الإخباري الذي يعمل به تعامل مع الحادثة باعتبارها تجذب متابعات عالية.
وبحكم بيئة العمل في أغلب المنابر الإعلامية المصرية يتم التركيز على كل ما يساعد على زيادة معدلات الزيارات والمشاهدات، بقطع النظر عن ملاءمة التغطية للمعايير المهنية من عدمه، ويظهر ذلك في تسليط الضوء على الخرافات وإقناع الجمهور بها، سواء كانت طبية أو نفسية أو اجتماعية وصارت جزءا أصيلا من المحتوى الإعلامي.
ويقول خبراء إعلام إنه من الصعب على المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ضبط الفوضى التي ضربت المنابر المختلفة في شأن التعاطي مع القضايا المثيرة، خاصة وأن المعايير التي يضعها لا يتم تطبيقها، ولا يملك معاقبة مخالفيها، وهناك مواثيق شرف وأكواد إعلامية لم يتم تفعيلها كأنها تصدر لتبرئة ساحة الهيئات المنظمة للمشهد.
ويعتقد هؤلاء الخبراء أن التصدي لإعلام الخرافات أو حتى المنابر التي توظف الانتحار لزيادة نسب المشاهدات لن يكون بوضع عدة معايير ليس أكثر دون وجود عناصر مهنية حاكمة، تتمثل في الحد الأدنى من التفرقة بين الإعلام الجاد والمثير، لغياب التدريب والتثقيف والتوعية على أساس موضوعي، وهو الدور الغائب حاليا.
ومازالت معضلة مجلس تنظيم الإعلام والهيئة الوطنية للصحافة أنهما يقيّمان رؤساء تحرير الصحف والمواقع ومقدمي البرامج بناء على معدلات جذبهم للجمهور، وليس وفق الإعلام الجاد والتوعوي الذي يقدمونه للقارئ والمشاهد ما يدفع الكثير من المنابر للاهتمام بالإثارة والخرافة للإيحاء بالنجاح في مهمة استقطاب الجمهور.
غياب الإعلام الجاد يكرّس توظيف الانتحار والخرافة لاستقطاب الجمهور
ويظهر ذلك في قيام أغلب المواقع بتثبيت أخبار الانتحار في الصدارة وعدم وضعها في الخلفية بعد فترة من الوقت وتكرار نشرها على مدار اليوم ولو كانت تخص حادثة واحدة، باعتبار أن “الترند” يتحدث عن هذه الواقعة، وهو ما حذر منه مجلس تنظيم الإعلام ودعا إلى معالجة الانتحار بطريقة مهنية لا بأسلوب ترويجي يثير التعاطف.
وقال صفوت العالم أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، إن تركيز الكثير من وسائل الإعلام على الانتحار والخرافة يعكس ضعف المهنية وأنها صلت إلى مستوى الانحدار، وصار الاهتمام بتقديم إعلام يثري الفكر ويغير السلوكيات والطباع مسألة صعبة، ويقود التعامل مع القضايا المثيرة باعتبارها تجارة تدر ربحا إلى كوارث مجتمعية.
وأضاف لـ”العرب” أن التركيز اللافت على وقائع الانتحار ومعالجتها بطريقة غير مهنية يطبّع الجمهور مع العنف، ومطلوب وضع أكواد مهنية لأسلوب تغطية الحوادث عموما، ففي كثير من الأحيان تقدم القصة المنشورة عن المنتحر بدائل لأصحاب الأمراض النفسية للخلاص من أنفسهم طالما يحظون بتعاطف الناس معهم بعد الموت، وهذا محظور في الإعلام الذي يقوم بدور توعية المجتمع لا تحريض أفراده.
وما يثير الانتباه في هذه الأزمة أن اللهجة التي تحدث بها مجلس تنظيم الإعلام للصحف والقنوات تجاه طريقة تغطية الانتحار شابها قدر من التسرع، حيث استخدام كلمات توحي بأنه لا يريد وضع نفسه في خانة المتهم بالتضييق على السياسة التحريرية.
وعندما تطرق إلى الخرافات ونشر ثقافة العلاج بالأعشاب التي تخصص لها بعض القنوات مساحات واسعة من برامجها لم يكن حاسما في منع البرامج من ممارسة هذه السلوكيات وفرض عقوبات عليها حال المخالفة، بل اكتفى المجلس بمطالبتها بالاعتماد على أطباء وخبراء، مع أنها (أي البرامج) تقدم ضيوفها على أنهم متخصصون.
ورأى صفوت العالم أن أزمة الإعلام المصري أنه ورث ثقافة جذب الجمهور بالإثارة، مثل حوادث القتل والتحرش والانتحار والخرافة وتتبع أخبار المشاهير، ولم ينشغل بتقديم وجبات دسمة من التوعية، وعندما يُمنع من الإثارة والقضايا غير المهنية سيواجه مشكلة، لذلك من المُستبعد أن يلتزم بمعايير تمنع الفوضى فهو ليس مؤهلا للبديل المهني حتى الآن.