مصر تعدل أولويات الإنفاق خشية اتساع المخاطر السياسية على وقع التقلبات الإقليمية

القاهرة تبحث عن هدوء يُمكنها من تجاوز التحديات الخارجية بأقل الخسائر.
الأربعاء 2025/06/18
تحصين الجبهة الداخلية يمر عبر الإصغاء إلى نبض الشارع

يفرض الظرف الإقليمي الراهن على السلطة المصرية اتخاذ سلسلة من الخطوات تستهدف تحصين الجبهة الداخلية، مهما بلغت الأثمان المالية، وهو ما يتضح في رصدها مبالغ ضخمة لتحسين القطاعات الخدمية، مع أنه إلى وقت قريب لم يكن هذا التوجه يحظى بالأولوية.

القاهرة – أثارت مخصصات قطاعات خدمية واجتماعية في موازنة العام المالي الجديد التي يناقشها مجلس النواب المصري حاليا، تساؤلات حول المبررات السياسية التي دفعت الحكومة إلى تخصيص مبالغ مالية ضخمة لملفات من المفترض أنها ترغب في الانسحاب التدريجي منها وتقليص الإنفاق عليها.

وحمل إعلان وزارة المالية بشأن التركيز على أولويات اجتماعية للبسطاء، تأكيدا بأن الحكومة معنية بشكل أكبر بتكريس الأمان السياسي، تحسبا لاتساع دائرة الصراع في المنطقة، بشكل يصعب معه تجييش الرأي العام خلف النظام الحاكم في مصر.

وخصصت الحكومة في الموازنة الجديدة 742.5 مليار جنيه (الدولار= 50 جنيها) للحماية الاجتماعية بزيادة 16.8 في المئة عن العام السابق، مع اعتماد 160 مليارا لدعم السلع التموينية بزيادة 19 في المئة و150 مليار جنيه لدعم المواد البترولية والكهرباء و54 مليار جنيه للإنفاق على الضمان الاجتماعي بزيادة 35 في المئة، و15.1 مليار جنيه لعلاج محدودي الدخل على نفقة الدولة بزيادة 50 في المئة.

عبدالحميد زايد: الأولوية الاجتماعية تأكيد على أهمية تماسك الجبهة الداخلية
عبدالحميد زايد: الأولوية الاجتماعية تأكيد على أهمية تماسك الجبهة الداخلية

وتم تخصيص 684 مليار جنيه للتعليم قبل الجامعي في المدارس، و358 مليارا للتعليم الجامعي و617 مليارا للصحة، بنسب زيادة تتخطى 20 في المئة، مع أن الحكومة كانت تتجه إلى توسيع الاعتماد على القطاع الخاص في أغلب القطاعات التي عززت مخصصاتها المالية في الموازنة الجديدة، ما يوحي بأنها قررت تجميد الخطوة، على الأقل إلى حين تجاوز الأزمة، ومحاولة إقناع صندوق النقد الدولي بأهمية هذه التوجهات التي تتعارض جوانب منها مع تصوراته للاقتصاد المصري.

وترى دوائر مصرية أن تعديل الحكومة من أولوية الإنفاق ببذخ على قطاعات تنموية لتحل مكانها أخرى خدمية واجتماعية، يرتبط بالخوف من اتساع المخاطر السياسية على وقع التقلبات الإقليمية، واحتمال أن تنعكس على الداخل، وترغب الحكومة في تجييش الشارع خلفها لأطول فترة، وتقليل الانشغال بالظروف المعيشية السيئة.

ويعد تعديل أولويات الإنفاق مؤشرا يُحسب للحكومة، وأنها بدأت تتعاطى بواقعية مع التحديات، وتستمع إلى أصوات عاقلة حذرت من المجازفة والاهتمام بالتنمية والمشروعات الكبرى على حساب معاناة الناس، وأمام الظروف الإقليمية المعقدة وتصاعد وتيرة الصراع بين إسرائيل وإيران استدعى الأمر المزيد من الحكمة.

ومالت الحكومة المصرية نحو الاقتناع بأن الظرف السياسي الراهن يفرض عليها اتخاذ ما يلزم لتحصين الجبهة الداخلية، ومنع تآكل شعبية النظام مهما كانت التضحيات المالية، لأن شراء الاستقرار لن يتحقق بلا تنازلات حكومية وقطع الطريق على قوى معادية تتاجر بظروف البسطاء وقت التحديات الصعبة.

واعتادت السلطة في مصر التعويل على الفقراء ومتوسطي الدخل لمواجهة التحديات، لأنهما يمثلان الكتلة الحرجة/ الشعبية الأكبر، وكلما كانت هذه الفئة متماسكة وصامدة يستطيع النظام التعامل مع أي تحدٍ باطمئنان لعدم إثارة منغصات سياسية ضده، إذ لا يرغب في تفتيت شريحة موثوق في دعمها له.

وليس سهلا أن تتنازل الحكومة عن المضي في خططها التنموية الضخمة لصالح ترضية الشارع بخدمات تمس احتياجاته، لكنها مضطرة إلى السير في هذا الطريق لأن الظرف حرج وتحتاج فيه الدولة إلى تثبيت التكاتف خلفها، بحيث يتفرغ النظام بمؤسساته للتعاطي مع التطورات الخارجية بلا مخاوف من حدوث أزمات داخلية.

وتحمل المخصصات الاجتماعية رسالة من الحكومة بأنها وإن كانت تواجه أزمة اقتصادية فإنها لن تتخلى عن البسطاء، وأن الدولة قادرة على تحسين الأوضاع المعيشية، وأن التحديات الإقليمية لن تصبح ذريعة لرفع يدها عن الحقوق الأساسية للمواطنين.

وقال الخبير في علم الاجتماع السياسي عبدالحميد زايد إن الأولوية الاجتماعية تأكيد على أهمية تماسك الجبهة الداخلية أمام اتساع دائرة المخاطر الخارجية، ووجود رضاء عند الكتلة الشعبية الأكبر وسط التصعيد العسكري الراهن هو ضمانة لتعزيز الاستقرار، ومن المهم أن تنعكس المخصصات الاجتماعية على الواقع المعيشي.

قوى معارضة في مصر تحذر من تجاهل نبض المواطنين في الظروف السياسية الدقيقة، لأن هذا النهج يوسع دائرة التمرد الشعبي على الواقع المعيشي

وأضاف زايد في تصريحات لـ”العرب” أن ترضية الشارع في خضم تقلبات خطيرة عملية سياسية جيدة، فمن الضروري التعامل مع الشريحة البسيطة الكبيرة سكانيا ومجتمعيا بخصوصية، لأن الدولة دونها سوف تجد صعوبة في مجابهة التحديات بمرونة، وهذا يفرض على الحكومة عدم القيام بأي خطوة من شأنها زيادة الأعباء على المواطنين لتعزيز الثقة.

ويصعب أن تقدم الحكومة على تخصيص مبالغ ضخمة للملفات الاجتماعية والخدمية، دون تكليف مباشر من الرئيس عبدالفتاح السيسي، ففي كل مرة يتدخل لإعادة ترتيب الأولويات بما يتناسب مع متطلبات المرحلة، وكان قد قرر في وقت سابق رسم علاقته مع المواطنين بإجراءات مغايرة للخطط الحكومية لإدراكه حساسية المرحلة.

وإذا كان هناك مصريون اعتادوا استقبال الصدمات بصمت، فإن ما تعكسه الأوضاع الإقليمية على الداخل يفرض إعادة ضبط البوصلة بإجراء مناسب قبل انفلات الأمور، وهو ما أقنع دوائر حكومية بصعوبة تكريس الاستقرار في غياب التوزيع العادل للاعتمادات المالية في الموازنة الجديدة، بما يراعي تقليص الإنفاق على المشروعات الكبرى وتوسيع شبكة الحماية الاجتماعية.

وما لم تقنع المخصصات الاجتماعية الناس بوجود تغيير ملموس في الأولويات سوف تكون عوائدها السياسية ضعيفة، ويجب أن يشعر المواطنون بأن الحكومة لا تعاندهم مع أنهم ليسوا ضد التنمية، لكن لكل مرحلة ظروفها ومهم أن يترافق الإنفاق مع متطلبات المرحلة، وليس رؤية حكومة تتمسك بسياساتها على حساب الشارع.

وحذرت قوى معارضة في مصر من تجاهل نبض المواطنين في الظروف السياسية الدقيقة، لأن هذا النهج يوسع دائرة التمرد الشعبي على الواقع المعيشي عندما يتحرك الناس وهم مدفوعون بمطالب مرتبطة بالحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية، ومن الخطر عدم التجاوب معها من قبل الحكومة.

والمعضلة أن شريحة من البسطاء تتعامل مع كل إجراء بزيادة المخصصات الاجتماعية والخدمية على أنه مقدمة لموجة غلاء تخطط لها الحكومة وترغب في تمريرها بلا ممانعات شعبية، حيث اعتادت أن تُعطي باليد اليُمنى وتأخذ ما منحته باليُسرى، نتاج ميراث من تهاوي الثقة في حكومة تحاول ترميم شعبيتها أخيرا.

ومن المستبعد أن تُقدم الحكومة على اتخاذ قرارات تزيد الأعباء على الناس كما كانت تفعل في كل مرة بعد إقرار مظلة حماية جديدة، فالظرف الراهن لا يسمح بتكرار ذلك والنظام نفسه يقتنع بأن التبعات السياسية سوف ترتد عليه وحده، ومهما تحملت موازنة الدولة من ضغوط، فالاستقرار الأمني أهم من أي شيء آخر.

2