الحكومة المصرية تسير عكس التيار بمواصلة استكمال مشاريعها الكبرى

القاهرة- بدت الحكومة المصرية كأنها تسير عكس التيار العام، بعد أن قررت استكمال بعض المشروعات القومية العملاقة، على الرغم من تكليف الرئيس عبدالفتاح السيسي لها، الأحد، باتخاذ الاحتياطات المالية والسلعية في ظل حالة التصعيد التي تشهدها المنطقة وما يمكن أن تحمله الحرب بين إسرائيل وإيران من تداعيات سلبية.
وجاءت تكليفات السيسي خلال اجتماع عقده مع رئيس الحكومة مصطفى مدبولي ووزير المالية أحمد مجوك، وبعد يومين من إعلان الحكومة أنها ستبدأ في المرحلة الثانية من مشروع “حياة كريمة” الرئاسي، وسط مطالبات من قوى معارضة وخبراء في الاقتصاد وفئات شعبية، بضرورة إعادة تحديد الأولويات والتوجه نحو التعامل مع ملفات الغذاء والطاقة وتوفير السلع تحسّبا من انفلات الأمور.
وعقد مدبولي اجتماعا مع جهات منفذة لمشروع تطوير الريف المصري “حياة كريمة”، وأكد أنه لا سبيل سوى الدخول في المرحلة الثانية قريبا، كأحد أبرز المبادرات التنموية الرئاسية التي تستهدف تحسين مستوى معيشة الملايين من المواطنين في الريف، من خلال توفير بنية تحتية وخدمات اجتماعية متكاملة وفرص عمل منتجة.
الحكومة المصرية ترفض الاستسلام للتحديات الراهنة مهما بلغت خطورتها، مقابل التمسّك بالسير في طريق استكمال المشروعات الكبرى كهدف سياسي قبل منافعها الاقتصادية
وكان خبراء يعتقدون أن الحكومة تنوي اتخاذ إجراءات تقشفية كبيرة بسبب تصاعد وتيرة التوترات الإقليمية، وترشيد الإنفاق إلى الحد الأدنى لعدم وصول الأزمة الاقتصادية الداخلية إلى مستوى خطير، لكنّ اجتماعا آخر للحكومة كشف عن استبعاد تلك الخطوة، والتي تتناقض مع توجهات سابقة لها بحتمية التقشف لمواجهة التحديات الخارجية.
وكان مجلس الوزراء قد وافق على تمديد مهلة تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع “حياة كريمة” مما أثار جدلا واسعا، وتردّدت معلومات على أن البلاد تواجه أزمة هيكلية، وإلا ما كانت الحكومة واجهت أزمة استكمال مشروع حيوي، ما يبدو أنها قررت الرد على تلك التلميحات ومخاطرها السياسية بالإعلان عن البدء في المرحلة الثانية.
ويبدو قرار الحكومة باستكمال مشروعات رئاسية ضخمة محاولة لتوجيه رسائل طمأنة للمواطنين، تؤكد أن الدولة تقف على أرضية صلبة، رغم التقلّبات الإقليمية الخطيرة، وأن الحرب الدائرة ولو كانت لها تداعيات سلبية فإن الحكومة لديها الكثير من الأدوات التي تستطيع من خلالها مواجهة المخاطر المستقبلية.
ويشير هذا التوجه إلى أن الحكومة المصرية ترفض الاستسلام للتحديات الراهنة مهما بلغت خطورتها، مقابل التمسّك بالسير في طريق استكمال المشروعات الكبرى كهدف سياسي قبل منافعها الاقتصادية، باعتبار أن التراخي أو الإخفاق أو التجميد المؤقت لتلك المشروعات له نتائج سلبية مرتبطة بترحيل حلول الأزمة المالية.
وتبرّر الحكومة تحركاتها بأن الرئيس السيسي يرفض التحجّج بالتداعيات الإقليمية على بلاده، لتجميد مشروعات كبرى وتوفير أموالها للإنفاق على قطاعات أخرى أساسية، مثل التعليم والصحة والغذاء، وكثيرا ما دافع عن وجهة نظره بأن البلاد القوية لها قوام تنموي معتبر، بحيث تستطيع الصمود أمام أي تقلبات خارجية خطيرة.
ويصعب فصل التوجه الحكومي نحو التمسك بتنفيذ المرحلة الثانية لمشروع “حياة كريمة”، بالرغم من عدم اكتمال مرحلته الأولى، عن أن الرئيس السيسي هو من أطلق المشروع عام 2019، ومن الصعب على الحكومة أن تلصق اسم رئيس الدولة بمشروع جرى تجميده، لأن التداعيات السياسية ستكون أكثر ضررا، ولذلك لا تمانع في تخصيص مبالغ مالية ضخمة لإنجازه كما ينبغي.
ويهدف المشروع إلى إعادة تطوير وتأهيل القرى والمناطق الريفية على مستوى مصر، وتحسين مستوى المعيشة وجودة الحياة للفئات الأكثر احتياجا مع الارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة للسكان، لتصبح كل قرية بيئة نموذجية من خلال توصيل مياه الشرب وشبكات الكهرباء والاتصالات والغاز وتحديث الطرق والمباني.
ويعد التركيز على تحسين جودة الحياة لعشرات الملايين من سكان الريف، محاولة للتسويق غير المباشر لرؤيتها لحقوق الإنسان التي اعتادت أن تختزلها في الحقوق الخدمية، دون اهتمام كبير بالحقوق السياسية التي تعتقد أنها غير ملائمة لطبيعة التحديات التي تواجهها الدولة المصرية حاليا.
وتتقاطع التحركات التنموية مع رغبة فئة من المواطنين والخبراء، ترى أن التوقيت السياسي لا يسمح بالاستمرار في مشروعات يُمكن تأجيلها مقابل التركيز على مجالات قد تتعرض لضربة موجعة، إذا انفلتت الأوضاع الإقليمية وأصبحت كل دولة منغلقة على نفسها، ويفضل أن تكون الحكومة حكيمة في ترشيد الإنفاق تحسبا لوضع صعب.
الحكومة تبرّر تحركاتها بأن الرئيس السيسي يرفض التحجّج بالتداعيات الإقليمية على بلاده، لتجميد مشروعات كبرى وتوفير أموالها للإنفاق على قطاعات أخرى أساسية
وأشار رئيس حزب العدل وعضو مجلس النواب عبدالمنعم إمام إلى وجود مشروعات تنموية بحاجة إلى توقف مؤقت، خاصة تلك التي عوائدها للأجيال المقبلة، مثل المدن الجديدة ومشروعات النقل، وثمة مشروعات تكلفتها ستكون أعلى في حال توقفها.
وأوضح لـ”العرب” أن مشروع “حياة كريمة” لا بد أن يستمر، حيث أنه يرتبط بالاحتياج المباشر للناس مثل الخدمات الأساسية وتوقفه يؤثر على المتطلبات الأساسية لسكان الريف، ومن المهم الموازنة بين التنمية ومتطلبات الشارع وقت التحديات والظروف الراهنة التي تفرض إعادة ترتيب الأولويات.
وترغب الحكومة عبر تنفيذ رؤيتها في تسويق سياسي إيجابي كي تقول إنها ماضية في إنجاز المشروعات الكبرى، لكن قد يحدث ذلك بوتيرة تنفيذ بطيئة، وهي صيغة مقبولة وأفضل من الإعلان عن التجميد الذي يقدم رسالة محبطة للشارع في ذروة البحث عن إعادة صناعة الأمل لدى الشارع وأن الدولة قوية وراسخة.
ويدافع قريبون من الحكومة عن هذا التوجه، بأن استكمال المشروعات الكبرى أمر منطقي، ومن الخطأ الاستجابة لدعوات المعارضة، لأن الدول لا تصمد أمام الأزمات بالمأكل والمشرب والخدمات، والتغافل عن بناء دولة بالتنمية والعمل بلا توقف، وقد حرّكت تلك المشروعات عجلة الإنتاج ووفرت فرص عمل للشباب.
وجزء من مشكلة الحكومة في مصر أنها لا تتعامل بحسابات البسطاء مع طريقة إدارة الأزمات، ومع أن الكثير من المشروعات التنموية تستهدف الشريحة الفقيرة لتحسين البيئة المعيشية، لكن نفس الفئة لها منطقها الخاص الذي يُعلي من قيمة التقشف وقت الظروف الصعبة بعيدا عن الإنفاق غير الرشيد في ملفات يمكن تأجيلها.
وإذا كانت نوايا الحكومة حسنة وترغب في تحسين جودة حياة البسطاء، عليها أن تستوعب الاحتياجات الأساسية بتعزيز مظلة الحماية الاجتماعية وتأمين معيشة الفقراء وسد متطلباتهم قبل أن تتسع الفجوة في أوساطهم.