هل يمكن أن نمثل الموت على الخشبة؟

باريس - يمتلك العديد من العاملين في فنون الفرجة والاستعراض حلما بأن تنتهي حياتهم على الخشبة، أي أن يفارقوا الحياة أمام الجمهور وهم يؤدون شخصياتهم التي تموت “فعلا” أو في نهاية العرض قبل إسدال الستار، كحالة موليير، المثال الأشد تأثيرا، إذ اقترب من الموت وهو على الخشبة يؤدي في المسرحيّة الأخيرة التي كتبها “المرض المتخيل”، لكن بالرغم من إصراره على إكمال العرض بعد انهياره عدة مرات، تم نقله إلى بيته، حيث مات على سريره دون أن يسمع تصفيق الجمهور.
يستضيف متحف أورسي في باريس وضمن فعاليات مهرجان الخريف الفنان القبرصي كريستودولوس بانايوتو، الذي يقدم ثلاث محاضرات مؤدّاة lecture-performance بعنوان “الموت على الخشبة”، تمتد كل واحدة منها لساعتين ونصف الساعة، يحدثنا خلالها كما يتضح من العنوان عن الموت كعنصر مسرحي سواء كان سرديا أو أدائيا، حقيقيا أو رمزيا، متقصدا أو إثر حادث ما، مستخدما أمثلة من مختلف الأشكال الثقافيّة كالمسرح واللقاءات التلفزيونيّة والحفلات الموسيقية، وموظفا منصة اليوتيوب بوصفها أرشيفا غير رسمي للموت العلني.
يستدعي العرض مفهوم الموت الرمزي الذي يتجلى في فن التقليد، إذ يخبرنا بانايوتو كيف يحضر الموت أمام فنان يتم تكريمه عبر أداء مقلّد له
شاهد بانايوتو الآلاف من الفيديوهات على الإنترنت، وقام بتخزين ما ينساب “ذوقه” أو “فكرته”، ما يحيلنا إلى مفهوم “الجامع الفيتيشي” ذاك الذي “يقتبس” من أصل ما، ليخلق عبر سلسلة الاقتباسات السياق المناسب لـ”شغفه”، في ذات الوقت منصات الفيديو هذه، تشكّل مساحة هوسيّة، تخلق لذة بورنوغرافيّة عبر خلق قوائم وفيودوهات مكثّفة ومتتالية لكل فكرة تخطر ببالنا، ليأتي بانايوتو ليلبي رغبته ثم فضولنا حول “الموت وتمثيله على الخشبة”، إذ يخبرنا أنه يعرض ما جمعه في كل عام يوم عيد ميلاده، كنوع من أنواع الترفيه لأصدقائه المدعوين.
يرسم بانايوتو العلاقة بين الموت والخشبة والجمهور عبر توظيف مفهوم “المفارقة التراجيديّة” بوصفه الشعور الذي يعتلي الجمهور حين يرى الشخصيات تسير نحو مصيرها دون أن تعلم، في حين أن الجمهور والمؤدين يعلمون ما سيحدث، وهو حسب تعبيره ما تمتاز به التراجيديات اليونانيّة، لكن المثير للاهتمام أن المصطلح لم يوظف أيام أرسطو وسوفوكل، بل ظهر عام 1833 على يد راهب أنجليكي اسمه Connop Thirlwall وذلك لخلق توافق بين الدراما الرومانسيّة وتلك المسيحيّة، لتأتي الفيديوهات التي يستعرضها كأسلوب للإضاءة على المفارقات التي يظهر فيها الموت على الخشبة، سواء كحالة موليير أو كالراقص السوفييتي رودلوف نيوريف الذي استلهم منه بانايوتو العرض، فنيورويف كرّم على الخشبة في باريس في التسعينات قبل موته بأيام، وهو يعلم أن شبح الموت قريب، وقال حينها إن حياته انتهت لحظة هذا التكريم.
وجوه الموت
لا يمكن حصر الفيديوهات في العرض أو تناول كل واحد على حدة، خصوصا أن مضمونها شديد التنوع، من مقاطع أفلام هوليوود وعروض الباليه حتى الحفلات التي صوّرها الهواة، لكن يمكن مقاربة المفاهيم التي يتناولها العرض، فالمغنيّة الفرنسيّة داليدا تحضر في عدد من الفيديوهات بوصفها تغنّي للموت، وتدعوه لزيارتها على الخشبة كما في أغنيتها “الموت على الخشبة”، كما تستخدم مأساتها الشخصية لتعبر عن رغبتها في الرحيل بين الجمهور وتصفيقهم، لتبدو وكأنها “تؤدّي” لحظات الموت كما تفعل حين تغنّي “أنا مريضة”، إذ رصد بانايوتو أسلوب الأداء الذي توظفه في هذه الأغنية، والذي يتطابق في كل حفلاتها، وكأنّها رسمت دورا علنيا للموت، يكشف على “وهميته” حقيقة ما تشعر به تجاه نفسها وحياتها الخاصة.
ننتقل بعدها إلى أثر الموت على الأداء الفني، كحالة ماريا كالاس التي بسبب تداعي صحتها كانت ترفض إصابة بعض النغمات أثناء تأديتها، وكان تبريرها لذلك “أنا أموت وهكذا سأقوم بالأمر” فاقتراب الموت من المؤديّ ينعكس على أدائه الفني ويؤثر به، وهذا يحيلنا لاحقا إلى واحد من أبرز أسئلة العرض، فإن كانت “الشخصيّة” ستموت فهل يمكن أن ينعكس ذلك على الممثل نفسه، أي كيف يستعد الممثل لأداء شخصية لا تعلم أنها ستموت في نهاية العرض؟ وكيف سيؤدي لحظة الموت، تلك التي لم يسبق له اختبارها ولا يمتلك، حسب ستانسلافسكي، ذاكرة عاطفية شخصية عن موته لجعلها محرّكا لمشاعره؟
للإجابة عن الأسئلة السابقة يستحضر بانايوتو مفهوم “راقصة الباليه المحترقة” وهي حكاية اشتهرت في القرن التاسع عشر عن احتراق عدد من راقصات الباليه على الخشبة بسبب الشموع والمشاعل، وذلك لرفضهن ارتداء ثياب واقية، ما جعل العرض خطرا في بعض الأحيان، وأدى إلى موت الكثيرات، ما يجعل احتمال الموت حاضرا في ذهن المؤدية التي تستعد له وينعكس في أدائها، وهذا ما نراه في الصور واللوحات التي تصور هذه الحوادث في تلك الفترة، فبعض الراقصات تابعن الأداء حتى وهن يحترقن.
أن تشاهد موتك
يستدعي العرض مفهوم الموت الرمزي الذي يتجلى في فن التقليد، إذ يخبرنا بانايوتو كيف يحضر الموت أمام فنان يتم تكريمه عبر أداء مقلّد له، يقف على الخشبة ويؤدي دور الفنان الذي يحضر بين الجمهور يشاهد “بديله”، وكأن الفنان يفقد وجهه على حساب مقلده، هذه الحالة التي نراها في العالم العربي مثلا في تجربة باسم فغالي وتقليده الشهير للفنانة صباح، وكأن قناع الموت يرتدي صورة “الفنان” في شبابه، كشبح يحوم على الخشبة، يبعث ماضي الفنان الجسدي والفني الذي يشهد عليه صاحبه ضاحكا أو باكيا.
الفيديوهات التي يحويها العرض تفوق في أثرها محاولات بانايوتو التعليق عليها، خصوصا أن بعضها شديد التأثير كحالة الحفل الأخير لأيمي ويانهاوس الذي ماتت بعده بأسابيع، إذ نراها تترنح على الخشبة عاجزة عن الغناء، وبالرغم من محاولة بانايوتو إضفاء جو من الضحك بعض الأحيان، لكن سطوة الموت العلني على الجمهور أقوى وأشد تأثيرا، فالموت أو احتمال مشاهدة الموت، يخلق توترا لدى الجمهور، حتى لو كان يعلم الحكاية مسبقا ويدرك مصير الشخصيات والممثلين، وهنا يبرز جواب السؤال الذي طرحه العرض في البداية عن سطوة الموت على الخشبة، تلك التي تظهر دائما حتى لو كنا نعرف الحكاية ومتيقنين من موت من نراه.