اقتصاد الصور اللامتناهيّة

"سوبر ماركت الصور" معرض فرنسي يعيد النظر في أساليب تبادل الصورة وكيفية انتقالها ونسخها بين المنصات والوسائط المختلفة.
الأحد 2020/05/10
دورة حياة الصورة الرقميّة

هناك أكثر من ثلاثة مليارات صورة يتم نشرها وتبادلها يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي، سواء أكانت أصلية أم أرشيفية، نحن أمام فائض من الصور التي تتبادل وتستنسخ وتقتبس بأسلوب لا يمكن ضبطه، بل نستطيع فقط توزيعها وتصنيفها وأرشفتها أو التحكم بتدفقها كما تفعل المؤسسات التي تنتج الصور أو تتيح تنشرها، لنرى أنفسنا أمام اقتصاد مُتكامل للصور، يتحكم به رأس المال والسياسية من أجل “إنتاج الحقيقة”، وكأن صورة العالم استبدلت أصله الواقعي حسب تعبير فرانسوا ليتوراد.

يقيم متحف “جو دو بوم” في العاصمة الفرنسيّة باريس معرضاً بعنوان “سوبر ماركت الصور”، في محاولة للإضاءة على دورة حياة الصورة، وكيفية انتقالها ونسخها بين المنصات والوسائط المختلفة ضمن ما يسمّى الاقتصاد الأيقوني، حيث أصبحت قيمة الصورة ترتبط بسرعة انتقالها وزمن تلقيها، خصوصاً أن “ظهور” الصورة للعلن لم يعد الهدف، وأضحى التركيز على قابليتها للتبادل، فالمعرض يسائل الصور من وجهتي نظر، الأولى ترى كل صورة كوسيط ماديّ قابل للتخزين، والثانية تعتبر الصورة مجموعة من الكودات الإلكترونيّة التي تضاعفت أعدادها يومياً.

لا تقتصر العلنيّة على توافر الصور للجميع، بل تمتد إلى ترتيبها واستعراضها وجعلها مرئية للمشاهدين بأسلوب محدّد ذي دوافع خفيّة

أول ما يلفت الانتباه في المعرض هو محاولات رصد الكمّ الهائل من الصور وأساليب تخزينها بوصفها “مُنتجات”، كما في الصورة التي تحمل اسم “أمازون” للألماني أندرياس غورسكي، والتي تحوي واحدا من مستودعات شركة أمازون في الولايات المتحدة، في إشارة إلى ثقافة الاستهلاك التي نعيشها، لتبدو الصورة أشبه بلوحة تجريدية تختزل الشرط الاقتصاديّ الحاليّ القائم على تراكم البضائع وخلق الطلب، ما يقضي على مفهوم التفرد.

 فكل ما نظن أننا نمتلكه حاضر في هذا المستودع، فرغباتنا تُخلق عبر الصور الإعلانيّة وتُلبّى بما هو موجود بين أكواب البضائع، كالصور ذاتها التي نستهلكها ونتبناها أحياناً لمجرد أنها “متوافرة” أمامنا، هذه الإشارات إلى الكمّ الهائل من الصور نراها أيضاً في عمل آنا فيتوريا موسي التي صنعت منحوتة من عشرين ألف نيغاتيف معلقة ومتراكمة ومتداخلة أشبه بشلال من الذكريات، لكن العمل الأشد إشارة لهذا الموضوع، هو ما قام به إيفان روث، إذ قام بطباعة الصور المتراكمة في ذاكرة حاسوبه العشوائيّة وإلصاقها جميعها على جدران الصالة ضمن تجهيز باسم “منذ أن ولدت”، وكأنه يحوّل تاريخه الشخصيّ إلى مساحة علنيّة يمكن عبرها تتبع أسلوب استهلاكه للصور في كل لحظة.

أزمة العلنيّة

تطور صناعة الصورة
تطور صناعة الصورة

تسائل بعض الأعمال في المعرض معنى العلنيّة وإلى أيّ حد خصوصيّتنا قابلة للانتهاك ظل أنظمة المراقبة الحاليّة والكاميرات المتوافرة في أيدي الجميع، خصوصاً أن كل ما هو علني قابل لأن يصبح صورة أرشيفيّة تخزّن ثم تظهر لاحقاً في سياقات سياسيّة وترويجيّة، وهذا ما حاولت الفنانة جيرادلين خواريز أن تشير له، إذ قامت بوضع العلامة المائية “gettyimages®” على مرآة، في إشارة إلى أن صورنا يمكن أن تصبح ضمن أكبر خزان للصور على الإنترنت.

 وحين نقرأ عن العمل نكشف أنه رد فعل على ما قامت به الشركة عام 2014، التي جعلت من 35 مليون صورة من دون حقوق، ونشرتها للعلن في الفضاء الرقميّ، وذلك كي تتمكن من ملاحقة كل من استخدم صورها دون دفع مقابل ماديّ، مهددة بذلك أيّ استخدام سابق أو لاحق لصورها.

هنا تأتي مرآة خواريز بوصفها إشارة إلى أن الصور ليست غير سلع، يمكن لنا أن نحضر ضمنها دون أن نعلم، ويمكن لها أن تنتهك أشد خصوصياتنا، إذ وضعت خواريز العلامة المائية على المرايا في حمامات المتحف، وكأن السياسات المرتبطة بالصورة قادرة على اقتحام كلّ ما هو مرئي سواء في مكان خاص أو عام.

لا تقتصر العلنيّة على توافر الصور للجميع، بل تمتد إلى ترتيبها واستعراضها وجعلها مرئية للمشاهدين بأسلوب محدّد ذي دوافع خفيّة. وهنا يظهر مشروع هارون فاروقي الذي يعلّق على عمارة الاستعراض والتسويق إذ قام في شريطه “صناع عالم التسويق” بلقاء عدد من المختصين الذين يقومون بترتيب البضائع على الرفوف في السوبر ماركت، لنكتشف معه أسلوب جذب المشتري وأسر انتباهه حسب القاعدة التي تقول إن الإنسان يمشي إلى المكان الذي تدلّه إليه عيناه.

علوم الصورة

صور الذاكرة الرقميّة
صور الذاكرة الرقميّة

التطور التكنولوجيّ غيّر أشكال “صناعة” الصورة وأساليبها، هذا التاريخ نلتمسه في عمل “كيف تصنع صور جيدة” لزوي ليونارد، التي جمعت 420 نسخة من دليل كوداك للتصوير للهواة منذ عام 1912 حتى الآن ورتبتها حسب سنوات صدورها، وما يثير الاهتمام في العمل هو سماكة كل دليل وحجمه وأسلوب ترتيب الكتب التي تغيّر اسمها من “كيف تصنع صور جيدة” إلى “كيف تلتقط صورة جيدة”، في إشارة إلى تطور عملية إنتاج الصورة وتحولها من جهد يدوي إلى مجرد لمسة على الشاشة.

 كما يشير العمل إلى رأيين مختلفين يتعلقان بالمُنتج البصري، الأول يرى في الصورة عملية في الزمن لا “تظهر” مباشرة، والثاني يرى في الصورة مجرد لحظة من الواقع، تنفصل عنه بمجرد التقاطها.

التعليق على آلية إنتاج الصورة الآن نلمسه في عمل “العنونة” لجيف غيس، الذي يتخيل الفضاء الرقمي والبيكسلات التي تتجمع حسب شيفرات محددة لتكوين صورة مبرمجة مسبقاً، لكنها لا تخزن أبداً، فالعمل يشير إلى تلاشي مادية الأرشيف، وتحوله إلى نظام تشفير مُتغير، فنحن لا ننسخ الصور ونخزّنها حالياً بل نتبادل البيكسلات والشيفرات التي تكونها، وكأن الصورة كبنية واحدة متماسكة لم تعد موجودة، بل أصبحت مجموعة من الخوارزميات والشيفرات التي تكوّن الصورة لحظة المشاهدة ثم تختفي حين ننتقل لغيرها.

شلال من ذكريات
شلال من ذكريات

 العملية التي تتحرك ضمنها البيكسلات لتكون الصورة ترتبط بالشرط التقنيّ الذي يمكن للعنف السياسي أن يتلاعب به، وهذا ما نراه في مجموعة صور ” تشويش” للفنان تيسير باطنيجي، إذ نشاهد مجموعة من اللقطات والصورة المشوشة التي لم تكتمل بيكسلاتها، وحين نقرأ عنها نكتشف أنها لحظات من فيديوهات كان يرسلها الفنان لأسرته في غزة بين عامي 2015 و2017 ما يجعل التشويش انعكاساً للعنف السياسي الذي يتعرض له المقيمون تحت الحصار.

في تلك الصور كل بيكسل ناقص يختزن تقنيات العزل التي يمارسها الاحتلال الصهيونيّ، الذي يقطع سبل التواصل، ما يجعل التشويش علامة الالتقاء بين السياسي الاستعماري وبين الشخصي الحميميّ، الأهم أن البيكسلات ترتبط بمفهوم الدليل، فدقة الصورة تهدد مدى “الحقيقة” التي تحويها، وقيمتها كوثيقة صالحة سياسياً وقضائياً.

يحوي المعرض بعض الأعمال التي تحمل خصائص ساخرة/سينيكيّة، كحالة عمل التجهيز “هل أنت بشريّ” لآرام بارثول، والذي يعيد تصميم الأحجية الرقميّة التي تظهر أمامنا حين نتصفح الإنترنت للتأكد من أننا بشر ولسنا برامج قرصنة، هذه الأحجية أساسها الصورة، والبشري “نظرياً” هو الوحيد القادر على ترتيبها أو حلّها كونها تعتمد على ذاكرته وعلى العلاقات المنطقية بين أجزاء الصورة.

وفي الشكل الذي يقدم فيه بارثول  الصور نتلمس محاولة لانتقاد أنظمة التعرف الأخرى والتي تحتاج منا تفاعلاً دائماً، كتلك التي تتبع حركاتنا اليوميّة بحجّة دلنا على الطرقات المناسبة، لتأتي الأحجية – عمل التجهيز بمثابة سخرية من الجهد التقنيّ الاصطناعيّ، فالصورة في الأحجية تتلاشى بمجرد حلها، وكأنها عامل ذو جهد مهدور لا يهتم به أحد.

Thumbnail
15