تحوّلات "القلب" وآلامه

لا يُمكن أن نعرف بدقّة من أين أتى شكل القلب الحالي ضمن التمثيلات الثقافيّة والفنيّة، البعض يرى أنه ظهر للمرة الأولى في مخطوطة لمؤلف مجهول من القرن الثالث العشر، في حين يرى البعض الآخر أن الرمز يعود إلى دينوسوس إله الخمر والخصوبة والمرح، هذا الاختلاف في تأريخ الرمز الشهير سببه أن الشكل المتداول الآن، لا يشبه القلب البشريّ من الناحية التشريحيّة، لكن أكثر التّفسيرات إثارة للمخيّلة، تقول إنه رمز يجمع مناطق اللذة في الجسد المؤنث، تصوّرٌ يبدو متحيزاً، لكنه كان مُرضِيَاً لمخيلة العصور الوسطى، التي اعتمد أطباؤها أيضاً تفسير أرسطو لشكل القلب، بوصفه يتألف من ثلاث حجرات، تتوزع فيها الشهوة والعاطفة والحياة.
يَستَضيف متحف الحياة الرومانسيّة في باريس معرضاً بعنوان “قلوب”، ونشاهد فيه أربعين عملاً معاصراً لثلاثين فناناً من جنسيات متنوعة تجمع بينهم محاولة الإحاطة بتمثيلات “القلب” بوصفه رمزاً للرومانسية، والحبّ المعذّب، والعطاء بين الحبيبين الذي قد يصل حد التمثيل بالذات والأذى الجسديّ، وهذا نكتشفه في أقسام المعرض التي يجسّد كل واحدة منها نوعاً مختلفاً من العواطف المرتبطة بالحبّ وشكل القلب حين يمتلئ بها.
يتناول القسم الأول من المعرض القلب بشكله الطبيّ، بوصفه محرك الحياة والشكل الماديّ لاستمرارها، بالإضافة إلى الإشارة إلى ما يختزنه من قيم رمزيّة ترتبط بدوره في “ضخّ” الحياة في الجسد، هذا الاحتفاء بعضويّة القلب نشاهده في منحوتة بورسلانيّة لجورج أورتا تجسّد قلباً بشريّاً لمّاعاً يُخاطب متخيلنا عن إتقان القلب لمهمته دون الإشارة إلى شكله الحقيقيّ الممتلئ دماً وأنسجة وشرايين، لكن ما يلفت الانتباه أكثر هو لوحة أودا جاون التي تعيد فيها إنتاج صورة تقليدية من التراث الفرعونيّ، إذ نرى مجموعة من الكائنات الهجينة ترتدي ثياباً طبيّة وتستخرج قلباً بشرياً من جسد مّا في سبيل فهمه ومعرفة أسرار الروح التي يختزنها.
فضاء المشاعر المتباينة
نتعرف في القسم الثاني من المعرض على تخيلات الفنانين عن قلوبهم وما تحويه من مشاعر وتقلبات عاطفيّة تتحول إلى رسوم وتشكيلات شديدة التنوع، كما في لوحة لنيكي سانت فالية، والتي تبدو للوهلة الأولى بسيطة وطفوليّة، لكن بعد تأملها نكتشف أنها تحوي كل ما تحبّ وتكره، وكأن القلب عالمٌ نَقيّ، يختزن العواطف والتقلبات اللامنطقيّة دون أن يقدّم أيّ تفسير، وهذا ما نراه أيضاً في لوحة لأوكا ليلي بعنوان “جرح كالضباب بالنسبة إلى الشمس” والتي تقارب فيها الأيقونات الدينية بصورة سورياليّة، فعوضاً عن أن تكون ليلي مُعلّقة على عامود بانتظار أن يخترق السهم قلبها كالقديس سيباستيان، نراها تجلس على طاولة أمامها دجاجة اخترقها سهم أخطأ قلبها المكشوف والمستعد للموت، وكأن الحظ منحها حياة جديدة وحباً جديداً.
ما يلفت الانتباه في المعرض تلك الأعمال التي تعكس هشاشة "القلب" من الناحية العاطفيّة خصوصاً إن كُسر وترك وحيداً في حال رحل الحبيب أو تلاشى
يتتبع المعرض تحولات القلب كتعبير عالمي عن المشاعر، هو أيقونة تتحرك بين الفن التشكيلي والزخرفة و تصميم الأزياء، إذ نراه في لوحة لفرانسوا بيترفيتش أشبه بهدية تقدمها عاشقة مجهولة لمن تحب، هدية تنتظر أن يلتقفها من تختاره، لكن هذا القلب يحوي أيضاً خصائص جماليّة شكليّة نراها في أحد المعاطف التي صممتها آغاثا رويز لعلامة برادا الشهيرة، والقلب أيضاً علامة على الحب التراجيديّ كما في لوحة لجيم داين التي نرى فيها قلباً شاحاً تسيل ألوانه، مُهدى إلى امرأة اسمها إيرين يتمنى لها الفنان ليلة سعيدة، وكأنه عبر اللوحة يصف حالته العاطفيّة تجاه حبيبة رحلت أو لم تبادله الوصال.
نكتشف أثناء تجوّلنا في المعرض أشكال المشاعر الجياشة بين الواقعين في الحب وكيفية ظهورها في الأعمال الفنيّة كما في لوحة لفيليب مايو بعنوان “زواج” والتي يستعيد فيها أسلوب رينيه ماغريت، إذ نطل على سماء صافيّة يتوسطها قلبان متداخلان يُكمّلان بعضهما البعض، لكنهما أيضاً مُبتلاّن وكأنهما عضو واحد ديناميكيّ، لتبدو اللوحة أشبه بصورة لدواخل جسدين متُّحدين ينبضان حباً وحياةً.
أزمة الحبّ والقلب المكسور
يلفت الانتباه في المعرض تلك الأعمال التي تعكس هشاشة “القلب” من الناحية العاطفيّة خصوصاً إن كُسر وترك وحيداً في حال رحل الحبيب أو تلاشى، و هذا ما نتلمّسه في عمل التجهيز الخاص بفرانسوا بيترفيتش، إذ نشاهد قلباً معدنياً معلقاً حوله قضبان زجاجية تهتز وتضرب القلب في كل مرة نحاول لمسه، وكأن القلب في حداد ونحيب علنيّ دائم، يتضح أكثر في منحوتة أنيت ماساجير التي تحمل عنوان “القلب يستريح” والتي نرى فيها قلبا من أسلاك معدنيّة، وكأنه يحيك نفسه بانتظار الاكتمال، متروكاً للمارة كعبرة عن الأثر التراجيديّ الذي يمكن أن يتركه الحبّ في قلب أحدهم.
يحوي المعرض أشكالاً مختلفة عن إعلانات الحب والتي تتبنى فن النيون المستوحى من البوب أرت كما في عمل مبسّط عن قلب يصيبه سهم، في إحالة إلى المتخيل الشهير المرتبط بالوقوع في الحب والذي تحوّل إلى رمز الحب من النظرة الأولى، ذاك الذي يخطف عقول العشاق ووعيهم، هذه العلنيّة نراها أيضاً في النيون الذي يحمل عبارة “أشتاق إليك جداً جداً جداً أكثر مما تتخيلين وستبقين دوماً دوماً صديقتي المقرّبة، تذكّري ذلك” هذه العبارة التي تليها قلوب حبّ أشبه بالرسائل القصيرة التي تتبادل على وسائل التواصل الاجتماعي، أما الحالة العلنيّة التي تتمثل في النيون فتعكس سطوة النص الحميميّ حين يكون صادقاً، ولا ينتظر أيّ ردّ، يكفي فقط أن يُرسل كنداء دون توقع جواب.
هناك جانب سوداوي للحب يرتبط بشدته وأثره على الجسد أو العاطفة ما قد يؤدي إلى فناء المحبّ أو العاشق، وهذا ما يتضح في لوحة بعنوان “حب أبديّ” لجيل باربيه، وهي جمجمة مقلوبة، تترك الانطباع بشكل القلب، وكأن الفنان عبرها يستعيد الأشكال الرومانسية للحب التي ترى في الموت نهاية الحب المنطقيّة، هناك أيضاً إحالة إلى العلاقة الدائمة بين اللذة والفناء، وكأنهما ذات الشيء، ويكفي فقط تغيير وجهة النظر كي تتضح العلاقة بينهما.