منابر إعلامية مصرية تعتمد الإقناع بدل الصراخ لترميم العلاقة مع الجمهور

اتجهت وسائل إعلام مصرية إلى تهدئة الخطاب الهجومي ضد المعارضين والمنابر المعادية التي تبث من خارج البلاد من خلال الاعتماد على الأدلة والوقائع والإقناع المنطقي، بعدما أدركت أن التمادي في الصراخ لا يعني اكتساب المصداقية.
بدأت بعض المنابر الإعلامية في مصر تتخلى تدريجيا عن ترهيب المختلفين مع الحكومة، وترد بشكل عقلاني وتناول هادئ دون صراخ أو تخوين كما اعتادت برامج وصفحات رسمية ومواقع تابعة لقنوات درجت على الدفاع عن الحكومة والنظام المصري بلا هوادة.
وأطلقت فضائية “أون تي.في” التابعة للمجموعة المتحدة للإعلام صفحة أخرى على فيسبوك وتحمل اسم “أون لايف” وهي أقرب إلى موقع إخباري لرصد كل أزمة يصدرها المناوئون للحكومة أو يتطرقون إليها، وتعتمد سياسة النشر فيها على الهدوء واستخدام لغة الأرقام والمقارنات وتفسيرات بعيدة عن الخيال، وهي تخاطب الشباب باعتبارهم الأكثر حضورا على منصات التواصل ولديها حتى الآن أكثر من مليونين ونصف المليون متابع.
وتقدم “أون لايف” رسالتها الإعلامية بعناوين عريضة، حيث تعتمد على “مفارقات” في تناول أزمة بعينها وتحليلها حتى يقتنع القارئ في النهاية بأن المشكلة مفتعلة، وترد عبر “عجائب إعلامهم” على كل ما تثيره القنوات التي تبث من تركيا وقطر وتدافع عن جماعة الإخوان بطريقة هادئة وبسيطة وبالحجة والدليل للتأكيد على كذب هذه المنصات.
مسعد صالح: تحسين نظرة الشارع إلى الإعلام ليست مهمة مستحيلة فالجمهور لا يحتاج مذيعا يتكلم دون دليل
ومن خلال “تصحيح المفاهيم” تستهدف إعادة تعريف الجمهور بالحقائق وتوعيته بأن معتقداته تجاه قضية بعينها خاطئة ومشكوك في صحتها بالاعتماد على أسلوب رصين في تصحيح المعتقد سواء أكان سياسيا أم اقتصاديا أم اجتماعيا. ويتم ذلك عبر شخصيات قادرة على الإقناع وتمتلك معلومات وقدرة على التحليل، وهي إشكالية عانت منها أغلب وسائل الإعلام، حيث يتم تناول الكثير من الموضوعات بطريقة سطحية.
ويسير هذا التوجه في طريق تبنته وسائل الإعلام مؤخرا لدحض ما تعتبره الحكومة شائعات تروجها بعض مواقع التواصل والفضائيات التابعة للإخوان أو تتردد على ألسنة الجمهور، ويقوم على رصد أبرز الشائعات والأقاويل المغلوطة وبجوارها المعلومات الصحيحة، وأحدث ذلك ردود فعل إيجابية لدى الجمهور غير أنه لم يتوسع ويفسح المجال لظهور معارضين يدلون برؤاهم السياسية المختلفة مع الحكومة بوضوح.
ويقول خبراء إعلام إن ما يحدث حاليا ينطوي على جزء يسير من مهمة الإعلام والذي لن ينتعش طالما هناك سقف محدود أمامه ويعبر في جوهره عن تردد في التمادي في الصراخ وكفى وعجز عن توسيع مجال الحريات، وهي صيغة تنطوي على مناورة ولن تحقق أهدافها الإعلامية وربما تنعكس سلبا على صورة الحكومة ما لم يكمل الإعلام الطريق حتى نهايته ويفسح المجال للحريات بصورة عملية.
وأكد مسعد صالح أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة أن تحسين نظرة الشارع إلى المنابر الإعلامية ليست مهمة مستحيلة، فالجمهور لا يحتاج مذيعا يتكلم في كل شيء دون تقديم دليل يضفي مصداقية على حديثه، والأزمة بين الجمهور والإعلام تكمن في أن الضجيج كان مهيمنا على السياسة التحريرية لأغلب البرامج.
وقال لـ”العرب” إن “بعض المنابر الإعلامية سمحت لنظيرتها المعادية أن يكون لها حضور عند شريحة من المشاهدين لاعتمادها على أسلوب أقرب إلى جلسات الفضفضة دون مناقشة القضايا والرد على السلبيات بشكل عقلاني بعيدا عن الشتائم، والجمهور يبحث عن منابر رصينة تخاطبه وتزيد وعيه ولا توصمه بالجهل”.
وتدرك الجهات القائمة على الإعلام المصري أن الاعتماد على الصوت العالي وتحويل المنابر إلى ساحات معارك كلامية لم تعد له جدوى في ظل التدفق المعلوماتي الراهن وظهور سياسة إعلامية لينة تستند على رصانة الرد لم يؤدّ إلى حل مشكلة عدم الثقة بين الجمهور والإعلام.
ويكتشف المتابع لعدد من المحطات التي تتبنى هذا الأسلوب أنها لم تتخل تماما عن مخاطبة الشارع بلغة خطابية مصحوبة بتعليق الإخفاقات على شماعة التآمر والحديث عن محاولات إسقاط مؤسسات الدولة لكنها تخلت عن التطاول المألوف.
واعتمدت الكثير من المنابر الإعلامية منذ عام 2014 أسلوب التجريح والتحامل على المعارضين لتثبيت فكرة إنجازات الدولة، ولم يكن مسموحا بتمرير رأي مختلف أو معارض للسلطة، بل كان يتم النيل من صاحبه والتشهير به والرد عليه بطريقة تثير امتعاض الجمهور.
وظهرت تجليات هذا المنهج في برامج الإعلاميين أحمد موسى وتوفيق عكاشة. وقامت هذه النوعية بدور الناطق باسم الحكومة والمحامي عنها والقاضي الذي يحاكم المتهمين والمحلل الذي يفسر المواقف وفق رؤية تدعم الحكومة.
ويرى خبراء إعلام أن التعامل برصانة مع الجمهور أهم مدخل لإقناعه بالرسالة التي يتم التسويق لها، فالخطاب القائم على تبني وجهة نظر واحدة والترويج لها بشكل لا يجذب الناس مشكلة لا تعترف بها أغلب المنابر التي صار عليها الكف عن معاملة الجمهور باعتباره يفتقد القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ.
ويعد تخلي أي منبر إعلامي عن الصوت العالي بداية لترميم مصداقيته، فلا يمكن إقناع المشاهد بأن المحتوى موضوعي ومهني، في حين تقوم سياسته التحريرية على السب والقذف والدفاع المستميت عن جهات دون تقديم قرائن.
ولم تعد بعض البرامج تمانع في عرض مقتطفات مما يتم التسويق له من سلبيات عبر منصات التواصل الاجتماعي أو يتم بثه على القنوات المناوئة للحكومة، حيث يتم الرد عليه بالحجة على أمل إقناع الجمهور بعدم صحتها، رغم أنه في أوقات كثيرة كان يتم التعليق بطريقة تنحصر في الصوت العالي وبلا مضمون حقيقي.
من خلال "تصحيح المفاهيم" تستهدف إعادة تعريف الجمهور بالحقائق وتوعيته بأن معتقداته تجاه قضية بعينها خاطئة ومشكوك في صحتها بالاعتماد على أسلوب رصين
وحُجزت بعض البرامج لصالح إعلاميين وضيوف مقربين من الحكومة، وفي بعض الأحيان يقوم المذيع بتحويل منبره إلى خطبة في مسجد ولا يكل من الصراخ في وجه الجمهور وتوجيه الاتهامات للآخرين، ما تسبب في هجرة هذه البرامج والبحث عن أخرى يحصل منها الجمهور على المعلومة حتى لو كانت لها توجهات مناوئة.
وراهنت بعض وسائل الإعلام في مصر في الفترة الماضية على توصيل رسالتها بصخب للإيحاء بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة وأن المختلفين مع النظام أو المشككين في توجهاته وطرحه كلهم من “الخونة” ولهم مصالح مشبوهة.
وعندما كان الرئيس عبدالفتاح السيسي يبدي امتعاضه من عدم شعور الناس بإنجازاته تتحول أغلب البرامج في المساء إلى منابر لتأديب الجمهور وشن الهجوم عليه لمجرد أنه لا يعترف بوجود إجراءات إيجابية، ولا يبادر هؤلاء بتعريف الشارع بما حدث ولماذا وكيف في كل ملف لإقناعه بالتغيير بدلا من كيل الاتهامات والصراخ.