معركة توفير الدواء في تونس تدخل مرحلة خطيرة

تنذر أزمة نقص الدواء في تونس بعجز صحي بسبب تكاليف الدعم الباهظة وتردي أوضاع الصناعة، وانخفاض قيمة الدينار أمام العملات الرئيسية، الأمر الذي يضاعف أزمة افتقاد الأدوية في السوق بعد غياب أنواع منها عن رفوف الصيدليات منذ أشهر طويلة.
تونس - تجمع أوساط الصحة في تونس على أن شيوع فقدان الأدوية من الصيدليات أصبح يمثل خللا كبيرا في نظام الرعاية الصحية باعتباره يختزل ارتباك إدارة الطبقة السياسية الغارقة في صراعاتها، لهذا القطاع.
وتلقي الكوادر الطبية في المستشفيات والمراكز الصحية والصيادلة وأيضا الطبقة الفقيرة باللوم على الحكومة بقيادة يوسف الشاهد والتي فشلت في تطويق الأزمة في قطاع يعاني أصلا من الفساد، الذي ينخر معظم مفاصل الدولة.
وتعد الرعاية الصحية أمرا أساسيا يكفله الدستور وفق الفصل 38، حيث يلزم الدولة بتقديم خدمات تحترم إنسانية المواطنين باختلاف شرائحهم الاجتماعية ولذلك فإن تراجع ذلك الحق يفضح حجم الإفلاس السياسي والاقتصادي لمسؤولي الدولة.
ويرجع مسؤولون وخبراء في القطاع سبب نقص الأدوية في السوق المحلية إلى تآكل احتياطات الصيدلية المركزية للدولة نتيجة ارتفاع ديونها للمؤسسات التي تتعامل معها.
وأكدت مصادر في الصحة لـ”العرب” أن القطاع يمر منذ أربع سنوات بمرحلة سيئة للغاية نتيجة السياسات المتبعة، وأن الوضع إذا استمر على ما هو عليه فإنه سينهار خاصة مع غياب بوادر فعلية لإنهاء الأزمة.
وشددت على ضرورة أن تسرع السلطات والجهات المعنية بفتح ورشة إصلاح كبيرة يتم فيها تشخيص الوضع بالتدقيق لإيجاد الحلول الملائمة قبل أن يغرق القطاع وخاصة في ما يتعلق بالأدوية.
ورغم تخصيص الدولة سنويا لأكثر من نصف موازنة قطاع الصحة للأدوية، لكن الوضع يواصل التدهور مقارنة بما كان عليه قبل الإطاحة بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
وتعاني الصيدليات والمستشفيات والمراكز الصحية من أزمة حقيقية، لا يبدو أن الحكومة تضعها ضمن أولوياتها القصوى، وهو ما يفاقم الجدل بشأن معاناة المرضى والمراجعين، ويختزل في الوقت ذاته الصورة القاتمة لمستقبل القطاع.
وقال مسؤول في مستشفى ولاية قابس، طلب عدم ذكر اسمه، لـ”العرب” إن “أغلب المستشفيات تعاني من نقص في الأدوية لم يسبق أن تعرضت له، فضلا عن اختفاء مستلزمات طبية ضرورية، والتي من المفترض أن توفرها وزارة الصحة”.
وأوضح أنه إذا لم يتم تدارك الوضع بشكل سريع فإن الأزمة مرشحة للتفاقم لاسيما وأن هناك نقصا في الكوادر شبه الطبية ما يعني أن الدولة عليها معالجة الأمور من جذورها.
ويتفق محمد علي، وهو ممرض أول في مستشفى ولاية بن عروس، مع الكثيرين ممن يعملون في القطاع، حيث أشار في تصريح لـ”العرب” إلى أن الحلول الترقيعية، التي تقترحها السلطات في كل مرة زادت الأوضاع سوءا إلى درجة أنها أصبحت “كارثية”.
ويقول مراقبون إن قطاع الرعاية الصحية التونسي من أكثر القطاعات فسادا، وأنه ينافس فساد قطاعات اقتصادية أخرى وأنه أصبح بيئة مثالية لاستيلاء لوبيات على أموال الشعب بالتحايل عبر صفقات مشبوهة.
وأطلق المدير العام للصيدلية المركزية، أحد الهياكل التابعة لوزارة الصحة، صيحة فزع حينما كشف مؤخرا قيمة العجز المالي الهائل لدى هذا الكيان الصحي.
وقال خليل عموس أثناء ندوة حول “ضمان التزود بالأدوية وتحديد الأسعار” عقدت الأسبوع الماضي بالعاصمة، إن “قيمة العجز المالي للصيدلية المركزية بلغ بنهاية العام الماضي، نحو 200 مليون دينار (نحو 70 مليون دولار)”.
وأرجع ذلك إلى التكاليف الباهظة لدعم الأدوية المستوردة وتدهور قيمة الدينار أمام العملات الرئيسية.
وتظهر الأرقام الرسمية أن الصيدلية المركزية رصدت دعما للأدوية بقيمة 73.2 مليون دولار العام الماضي، بينما تكبدت نفقات إضافية بقيمة 53.3 مليون دولار نتيجة تدهور العملة المحلية.
وواجهت الصيدلية المركزية منذ فترة حكم الترويكا متاعب كثيرة لكنها ازدادت حدة خلال العامين الأخيرين نتيجة عوامل متعلقة بالتصنيع المحلي وصعوبة الاستيراد، ما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع الاحتياطي الاستراتيجي للأدوية إلى أقل من 3 أشهر.
واختفت العشرات من الأصناف من الأدوية من رفوف الصيدليات، وحتى الأصناف البديلة (الجنيسة) لم يعد لها وجود في السوق مع أنها كانت خيارا في السابق للكثير من المرضى لأسعارها المنخفضة.
أرقام عن قطاع الصحة
- 140 مليون دولار ديون تونس للمزودين الأجانب
- 210 ملايين دولار ديون المستشفيات للصيدلية المركزية
- 73.2 مليون دولار الدعم الحكومي للأدوية في 2018
- 70 مليون دولار العجز المالي للصيدلية المركزية
- 74 عدد شركات صناعة الأدوية والمستلزمات الطبية
- 250 مليون دولار رقم معاملات صناعة الدواء
- 166مستشفى حكوميا وأكثر من ألفي مركز صحي
وفي ظل تضارب المواقف وغياب حلول جذرية للمشكلة، تلقى التونسيون صدمة العام الماضي حين لوح مزودون دوليون بوقف إمدادات أنواع من الأدوية مثل أدوية ضغط الدم والسكري، إذا لم تسدد تونس ديونا تبلغ 140 مليون دولار.
وتشير التقديرات إلى أن ديون المستشفيات البالغ عددها 166، إلى جانب أكثر من ألفي مركز صحي، تجاوزت 210 ملايين دولار في العام الماضي. وتؤكد أنها لم تعد تصلح لتقديم الخدمات الطبية وتحتاج إلى إصلاحات عاجلة.
ويعتقد عموس أن ارتفاع مستحقات الصيدلية المركزية لدى مستشفيات القطاع العام تعد أحد الأسباب الجوهرية التي جعلت هذا الهيكل يواجه صعوبة في سداد ديونه لدى المزودين في الخارج.
وتمارس وزارة الصحة ضغوطا، بحسب ما علمت “العرب” من مصادر مطلعة، على إدارات المستشفيات الحكومية لسداد ديونها للصيدلية المركزية حتى تستطيع بدورها سداد ديونها للمزودين الأجانب.
ويبدو أن أزمة نقص الدواء ليست مقتصرة على ذلك فحسب، بل إن نفاد أو غياب أنواع من الأدوية يعود أيضا إلى تراجع إنتاج المصانع المحلية، التي ضربتها عاصفة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
وفي مسعى لتجاوز الورطة وتخفيف الضغوط على الاحتياطات النقدية، أطلق مجلس التحاليل الاقتصادية في يناير الماضي مبادرة “فارما” لتعزيز القدرة التنافسية لشركات صناعة الأدوية والمستلزمات الطبية.
وبحسب البيانات الرسمية، فإن القطاع يضم 74 شركة، من بينها 36 شركة مختصة في صناعة الأدوية، فيما تركز البقية على صناعة المستلزمات الطبية، برقم معاملات يبلغ سنويا 250 مليون دولار.
ورغم نفي الجهات المعنية بالصحة وجود نية لزيادة أسعار الأدوية المتعلقة بالأمراض المزمنة، لكن يبدو أن هناك خططا لزيادة أسعار الأدوية المستوردة، ما قد يفتح باب الجدل على مصراعيه مرة أخرى حول طريقة إدارة هذا الملف الحساس.