مسارح وقاعات دار الأوبرا المصرية تعاني من فقدان الهوية

موسيقى الجاز تكشف ضعف إمكانات الأجيال الجديدة قياسا بالرواد والمؤسسين.
السبت 2019/11/23
اجترار الماضي في حضرة تماثيل عمالقة الفن الراحلين

احتفال مصر بذكرى تأسيس دار الأوبرا الخديوية، مؤخرا، كشف عن البون الشاسع بين ما تنعم به دار الأوبرا الجديدة من إمكانيات وتجهيزات حديثة وما يضعه القائمون عليها من برامج تعتمد بالأساس على تقديم الأغاني القديمة والاحتفاء بأصحابها بتماثيل تجسدهم تملأ حديقة الأوبرا.

القاهرة – كانت الأوبرا الخديوية المحترقة التي احتفلت مصر في 14 نوفمبر الحالي، بمرور قرن ونصف القرن على إنشائها، صوتا للحاضر الفني الزاهر والغد المحمل بالآمال.. وتعاني دار الأوبرا الحالية أيضا من فقدان وهجها وحيويتها في ظل برامج باهتة وإدارة رثة وتراجع فني.

وتتصاعد مع كل كرنفال ينظمه المركز الثقافي القومي والمؤسسات الرسمية المصرية، للاحتفال بذكرى تأسيس الأوبرا الخديوية القديمة عام 1869، أو ذكرى تشييد الأوبرا الجديدة القائمة 1988، شرارات موجعة، وينطلق وسط صخب الموسيقى الكثير من التساؤلات من بينها: ماذا فعلت إدارة الأوبرا لحمايتها من حريق جديد؟

لكن الدار اليوم أمام تحدّ أكثر خطورة من ألسنة اللهب، حيث صارت تعاني من خفوت أنشطتها وفنونها وتلاشيها إلى حد الاندثار، وأصبحت المعضلة الحقيقية أمام القائمين عليها تتمثل في كيفية إنقاذ المسارح والقاعات والفرق على تنوعها من خواء الحاضر وفقدان الهوية وانمحاء الشخصية وارتباك البوصلة الإدارية. وعليهم مراجعة السياسة التي تنشد الحلم باستعادة بريق باريس الشرق، مكتفية برصّ تماثيل عمالقة الغناء والطرب بين المسارح، والتعويل على حفلات “الكلثوميّات” و”الوهابيّات” بأصوات قاصرة.

عندما تُذكر مفردة “الأوبرا” بوصفها مؤسسة ثقافية فاعلة، وكيانا إشعاعيّا رفيعا في يد القوة الناعمة، فإن الأذهان والتصورات تتجه تلقائيّا إلى كل ما هو طليعي تقدمي في الفنون، خصوصا الموسيقى والغناء والباليه والرقص، وما هو منفرد مبتكر، معبر عن خصوصية مجتمعه، وكاشف للحظة الراهنة، بإمكانات جمالية وتنويرية باذخة زاخمة.

قلعة ضد الزوال

وفق هذه المنظومة أديرت الأوبرا الخديوية طويلا، كأولى دار أوبرا في أفريقيا والشرق الأوسط، وامتدت فيوضات الفنون الراسخة وتأثيراتها من المحيط إلى الخليج؛ فالمسرح الذي ألف الإيطالي فيردي أوبرا عايدة من أجل افتتاحه، ظل لسنوات خلال القرن الماضي قلعة يتحصن فيها الفن ضد الفناء والزوال، وكانت حفلة واحدة بالأوبرا لأغنيات كوكب الشرق الجديدة ملتقى لجمهور الوطن العربي، إلى جانب حضور كبار القادة والساسة والزعماء ورجالات الأدب والفكر.

مرور مئة وخمسين عاما على افتتاح الأوبرا الخديوية، هو بالفعل أمر جدير بالاحتفاء، مثلما أخذت على عاتقها دار الأوبرا المصرية في احتفاليتها الموسّعة منذ أيام قليلة، لكنه في الوقت ذاته حدث يثير الشجون والآلام، وينكأ الجراح، فالاحتفال الحقيقي الذي يرجوه الجمهور، هو استعادة أمجاد الأوبرا المحترقة، على مستوى الإنتاج الفني، والرؤية، والإدارة، بما يقدّم صورة تليق بشخصية مصر.

تكفي إطلالة على برامج دار الأوبرا المصرية خلال شهري نوفمبر وديسمبر 2019، لاستشفاف الأفق الحالي للمخططات والتطلعات، وما آلت إليه خارطة السياسات المرسومة لهذه المؤسسة القومية، بمسارحها وفرقها الكثيرة، والتي تعهدت حال تدشينها بمنحة من الحكومة اليابانية منذ أكثر من ثلاثين عاما بإنجاز مهام عدة “ضخمة”، منها: بناء وتنمية الإنسان المصري والعربي بالتعليم والتثقيف والإبداع، ورسم ملامح الثقافة المصرية الجديدة، وصياغة الوعي وتنشيط الفكر الثقافي، واكتشاف المواهب الشابة.

وبعيدا عن هذه العناوين الشعارية، ووفق معطيات برامج نوفمبر وديسمبر، فإن الخطوط العريضة لعروض الأوبرا في الوقت الحالي تكاد تنقسم إلى اختيارات محدودة، تنحصر بين التراثيات الاستعادية، والتصوف والإنشاد الديني، والمؤتمرات والمهرجانات الاحتفالية الدعائية، والوافد الغربي من موسيقى ورقص وباليه، وعروض الفرق المحلية.

الجمال الخارجي لا يغني عن الفن الراقي
الجمال الخارجي لا يغني عن الفن الراقي

ما يجسّد هذه الخطوط بحذافيرها، خلال هذين الشهرين كمثال، حفلات فرق: التخت العربي للموسيقى والغناء، والموسيقى العربية للتراث، و”وهابيات” و”كلثوميات”(معهد الموسيقى العربية)، وعبدالحليم نويرة للموسيقى العربية، وفعاليات مهرجان الموسيقى العربية، وفرق الإنشاد الديني، والإنشاد الصوفي، والمولوية المصرية، وأوركسترا وتريات الإسكندرية، وبعض العروض العالمية: “كارمن” فلامنكو دي مدريد (إسبانيا)، و”يارمركا” للفنون الشعبية (روسيا)، وعدد من الإسهامات المحلية: فبريكا (نيفين علوبة)، ونجوم مصرية للموسيقى والغناء، بالإضافة إلى “أمسية شعرية”، وكورال أطفال الأوبرا.

وفق هذه البرمجة، فإن مؤسسة الأوبرا قد جرى اختزالها من منصّة تفجيرية خلاقة، أساسها المحتوى الإبداعي المتسم بالتفوق والحداثة والقدرة على إبراز الذات داخليّا ومد أذرعها خارجيّا كأسلحة معنوية تدعم مفهوم الدولة القوية، إلى وعاء مادي أجوف، مكوّن من مسارح وقاعات تستثمر النوستالجيا (الحنين إلى الماضي) لدى الجمهور، وتعيد استهلاك ما جرى إنتاجه من قبل على نحو سطحي استسهالي.

لا يمكن قياس نجاحات الحاضر بمؤشرات ماضوية بائدة، خصوصا أن الفرق مذهل بين الأعمال الأصلية المعبرة عن قيمة فنية تضارع قيمة مرحلتها الخصبة برمتها، ومستنسخاتها الباهتة التي تقدمها الآن فرق مثقلة بالعاديين وغير الموهوبين، وتدار في أحوال كثيرة بواسطة موظفين و”مؤدين” أكثر من كونهم مبدعين.

إن الإدارة التي تهدر العامل الزمني، وتحركات العصر، وتطورات القوى الإقليمية والدولية المجاورة في عالم تنافسي دينامي، وتساوي بين الحقيقي والمقلَّد، يكاد يستوي لديها البشر والتماثيل، وفق الرؤية المحنطة والأفكار الجامدة.

لعل هذا يفسر سبب الاحتفاء المبالغ فيه بكل ما يخص الماضي، وكأن الأوبرا الحديثة منفية خارج التاريخ، ومن صور هذا النفي التكريس على نحو غير مسبوق لإقامة التماثيل في حديقة الأوبرا، وبين مسارحها، أملا في استعادة أرواح سيد درويش وأم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وأحمد شوقي وفاتن حمامة، من خلال نحت أجسادهم في “الفراغ” القائم.

هذه الرؤية المتثاقلة تسببت كذلك في المبالغة في الاحتفال بذكرى تأسيس الأوبرا الخديوية، ففي ظل العجز عن الفعل، تنمو غاية فوقية هي قناعة الكسالى بأن تذكّر الأمجاد يعادل صناعتها، وأن الريادة الفنية والثقافية “إرث ثابت” ينتقل من جيل إلى جيل دون أن يبذلوا جهدا في تنميته، أو حتى المحافظة عليه.

برامج الأوبرا الحالية فقيرة ومتكلسة وتنحصر في الوافد الغربي والتراثيات والتصوف والإنشاد الديني والمهرجانات الدعائية

من مفارقات اللحظة الآنية كذلك، الاهتمام بالكمي والشكلي على حساب النوعي والجوهري، فهناك العشرات من الملتقيات والمهرجانات ذات الطابع الدعائي الاحتفالي، التي لا تبتعد في أنشطتها عن برامج الأوبرا الاعتيادية، وهناك مفاخرة بعدد المسارح التابعة للمركز الثقافي القومي، وبعدد الفرق التي تدور في حلقات متشابهة.

هذه المسارح والقاعات قد تكون مشيدة بالفعل بطرز حديثة، ومجهزة بإمكانات فنية وتقنية متطورة، لكن المطلوب في هذا الجسد الهش هو مضخّات للدماء، وخلايا تثويرية خلاقة، تأخذ من الوجهة البشرية بمقومات الابتكار والإبداع الأصيل، النابع من ركائز إنسانية وخصوصيات محلية، كما أنها تساير بالضرورة روح العصر التنافسي، ومستجدّات التشويق والمتعة والإبهار حول العالم.

تمتلك الأوبرا المسارح: الكبير، الصغير، المكشوف، الجمهورية، معهد الموسيقى العربية، سيد درويش، الروماني، إلى جانب العديد من القاعات للبروفات والتدريبات والفنانين، وفصول تعليمية، وغرف ملابس، وورش ديكور وأزياء، وقاعات معارض، ومتحف، ومكتبة موسيقية.

وتتبعها فرق عدة، من أبرزها: الموسيقى العربية للتراث، أوبرا القاهرة، عبدالحليم نويرة، القومية العربية للموسيقى، باليه أوبرا القاهرة، أوركسترا القاهرة السيمفوني، أوركسترا أوبرا القاهرة، الإنشاد الديني، الرقص المسرحي الحديث، كورال أوبرا القاهرة، كورال أكابيللا، أوبرا الإسكندرية للموسيقى العربية.

على الرغم مما يبدو تنوعا، فإن الزخم الفني غير متحقق بصورة كافية مع هذه البدائل المتعددة، إذ يُلاحظ دوران الكثير من النشاطات في فلك مشابه، وفق توجهات الفرق وتفاصيلها وأهداف إنشائها، ففرقة عبدالحليم نويرة تشتغل على التراث ومحاولة تطويره مع الحفاظ على طبيعته اللحنية وإيقاعه، وهو المجال ذاته الذي تعمل في إطاره كل من الفرقة القومية العربية للموسيقى، وفرقة الموسيقى العربية للتراث، كما تتشابه اهتمامات فرقتي أوركسترا القاهرة السيمفوني، وأوركسترا أوبرا القاهرة، بتقديم حفلات سيمفونية ومصاحبة فرق الأوبرا والباليه المحلية والعالمية.

في احتفاليات الأوبرا المتعددة، لم توارِ البالونات الملونة المتصاعدة في الفضاء فقدان مصر للكثير من نجومها وأقمارها المشعة، وخفوت وهجها كقوة ناعمة ناهضة عربيّا ودوليّا.

نافذة لنشر التنوير

المسرح الكبير
المسرح الكبير

إذا كانت حوائط المعابد القديمة تشهد بنقوشها على تفوق الفراعنة في الموسيقى وابتكارهم آلات متعددة بين وتريات وطبول وآلات نفخ، فإن إطلالة على الواقع الموسيقي في مصر تكشف غيابا للتيارات التجديدية المؤثرة، إذ تأتي أغلبية الحفلات الموسيقية والسيمفونية والأوركسترالية وعروض الباليه والرقص وغيرها استعادية لأعمال سابقة، وحفلات الموسيقى العربية، والإنشاد والتصوف، وتكاد تتمحور المؤلفات المصرية حول الدراما التمثيلية أو الغناء التقليدي، باستثناء بعض الإرهاصات الفردية، مثل أعمال عمر خيرت، التي نشأت أغلبيتها أيضا في الأصل لمرافقة دراما تليفزيونية وسينمائية.

أدى الضعف في الساحة الموسيقية والغنائية وغياب القامات الشامخة والأسماء البارزة إلى هذا الكساد المهيمن على المشهد، بما أفسح المجال لموسيقيين ومطربين عرب ليجتذبوا قطاعا كبيرا من الجمهور المصري، وبصفة خاصة الشباب، كما وجد البعض ضالته في الشعبيات الراقصة، والمبتذلة، والخليعة، التي تُصنف كأحد أنماط التلوث السمعي.

في حين تبدو موسيقى الجاز المصرية أكثر استقلالية وخصوصية وتطورا، على صعيد التأليف والارتجال وأساليب العزف، فإنها تعاني من ندرة مؤلفيها وقلة مستمعيها، وضعف إمكانات الأجيال الجديدة قياسا بالرواد والمؤسسين الذين بلغوا ذروة تألقهم في الربع الأخير من القرن الماضي، كما في تجارب يحيى خليل، وفتحي سلامة، وآخرين. وتتاح لحفلات الجاز مساحات قليلة من نشاطات ساحة الأوبرا، على مسارح أكثر تحررا وخروجا عن النمطية.

مع هذه المؤشرات كلها، فإن على دار الأوبرا المصرية ألا تكف عن الحلم بأن تعود نافذة لنشر التنوير، وأن تلعب دورها المنشود في مقاومة الرجعية والتطرف والتيارات الظلامية، وذلك مشروط بتخلصها كمؤسسة ثقافية من الأمور السلبية السابقة، وغيرها من المشكلات الكثيرة، مثل ضعف الموارد والميزانية، وغلبة البيروقراطية والأداء الروتيني، وافتقاد التنظيم الجيد للفعاليات والأنشطة، بما فيها المؤتمرات والمهرجانات الدولية، التي تعاني خللا إداريّا فادحا حتى في أبسط الأمور مثل حجز التذاكر وشرائها، وترتيب برنامج دقيق منضبط المواعيد.

إن للموسيقى المصرية رصيدا كبيرا من التحقق والفرادة على مر عصور سابقة، منذ عهد الفراعنة، وهي موسيقى دائمة التطور، بفعل انفتاحها واستيعابها للوافد من سائر الأنحاء، مثل الموسيقى العربية، والأوروبية، والأفريقية، وغيرها. وتتجلى ضرورة أخرى جوهرية، هي سرعة عثور الأذن المصرية على هويتها الغائبة، في عصر تراجعت فيه الفنون.

17