لو قرد لأصبح أفضل قناص

هناك تجربة شاهدتها مرارا عن تنمية قدرة التعلم عند دجاجة. توضع لوحة بأزرار أمام الدجاجة. تتعلم الدجاجة الضغط على الأزرار بإيقاع معين، وتكون مكافأتها لو ضبطت الإيقاع أن تعطيها اللوحة كمية من الحبوب. تكرر الدجاجة -الخبيرة الآن- الإيقاع لحين تشبع.
ثمة علاقة بين هذه التجربة والفساد في الجيوش. آخر فضائح الفساد في الجيوش هو الجيش الأفغاني. جيش أنفق عليه عشرات المليارات (وربما المئات) من التسليح والتدريب، ليتبخر عمليا أمام قوة بدائية.
فساد الجيش الأفغاني لن يكون أول فساد في الجيوش ولا آخره. قبل أيام نشرت وكالة أنباء عالمية عن حسرة المهربين ممن يتاجرون بمعدات الجيش الأفغاني (وبعض من معدات الجيش الأميركي). على الحدود بين أفغانستان وباكستان يمكنك شراء أفضل ملابس عسكرية بأقل من ثمنها الحقيقي. هل تريد معدات رؤية ليلية أو أجهزة لاسلكي أو أسلحة خفيفة؟ هل أعجبك حذاء متين تلبسه وأنت تتسلق جبال تلك المناطق الوعرة؟ ما عليك إلا التوجه إلى هؤلاء التجار. مخازن الجيش الأفغاني كلها أمامك. "الأرنص" الأفغاني بالمليارات، أين منه "الأرنص" المصري الشحيح.
"الأرنص" تجارة سرقة وتهريب مصرية لمن لا يعرفها. تجارة كسولة، لأن مهمتها تهريب ملابس ومعدات ومعلبات أغذية وإطارات سيارات من معسكرات الاحتلال البريطاني في مصر خلال الأربعينات ومطلع الخمسينات. تاجر "الأرنص" المصري يورد خضروات ويكون قد رتب أمره مع العريف أو الضابط للخروج محملا بأشياء أخرى تسرق من مخازن الجيش البريطاني وتسجل تالفة أو تم استهلاكها. "الأرنص" تحريف لكلمة أوردينانس الإنجليزية التي تعني التموين. صنعت هذه التجارة أثرياء حرب. قدمهم الأدب المصري بلا رحمة كانتهازيين، وقطعتهم السينما المصرية إربا. آخر ذكر درامي لهم كان في مسلسل "ليالي الحلمية". رسم أسامة أنور عكاشة شخصيتي "خميس" و"بسة" كي تستمتع بكراهيتهما على مدى مواسم المسلسل.
الجيوش فرصة للنهب. ضابط "العينة" كما تسمى إدارة التموين في الجيش العراقي، ضابط يثرى بسرعة. هناك فرق بين ما يسجل في الدفاتر من رز ولحم لأرزاق الجنود (هكذا تسمى الوجبات الغذائية) وما يدخل معدتهم. في قيض العراق، ثمة حصة من قوالب الثلج كي يشرب الجندي ماء باردا. قالب الثلج بطول متر، وثمة حصة تتناسب مع عدد الجنود في الفصيل أو الفوج. قالب الثلج يقطع بالمنشار وتتضاءل الحصة إلى "نص قالب" أو "ربع قالب". أي لجنة تفتيش وتدقيق ستصل بعد أن يكون الثلج قد ذاب. من هنا جاء المثل العراقي "سجل على قالب الثلج". هذا في الثمانينات. ما نسمعه عن الفساد في العراق اليوم، يجعل ضباط "العينة" القدامى من جنس الملائكة.
نعود إلى علاقة الدجاجة بالفساد في الجيش الأفغاني. الجيش الأميركي درب الجيش الأفغاني لعشرين عاما. لو أن الجيش الأميركي درب دجاجتنا لعشرين عاما على التحكم بالأزرار، لكانت قد أصبحت خبيرة في التحكم بالدرونز وتوجيهها. (أعرف أن الدجاجة لا تعيش 20 عاما). ولو أن الجيش الأميركي درب قردا لعشرين عاما على بندقية، لأصبح قردنا أفضل قناص في العالم. لكن هل كان من مصلحة شركات التدريب العسكري (ننسى شركات الأسلحة لأنها قصة أخرى)، أن يتعلم الجندي الأفغاني كيف يصبح جنديا حقيقيا؟ أم أنها كانت تسجل حساب المليارات على قالب الثلج؟