انعدام الفعل ليس خيارا مصريا أمام مطالب ترامب

ترامب يريد أن يحول الفاتورة الشهرية إلى حق أميركي مكتسب وما يربحه من صفقته سيجعل الآخرين يريدون مكاسب شبيهة وصولا إلى تحويل قناة السويس المصرية إلى مضيق السويس الدولي.
الاثنين 2025/04/28
هذا عالم ترامب الذي يعتقد أن بوسعه فعل ما يشاء

أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب أول إشارة له على أن الحملة التي يشنها في البحر الأحمر على القرصنة الحوثية – الإيرانية لن تكون مجانية. ربط، أسوة بطريقته بعقد الصفقات، بين ما تقوم به بلاده من تصد للحوثيين وتدمير ترسانتهم من الصواريخ والمسيرات، بأن تقدم الدول المعنية مساهمتها المقابلة. ما يحدث يشابه إلى حد كبير ما يريد ترامب فرضه على الأوكرانيين من توقيع عقود لحصول الولايات المتحدة على امتيازات المعادن النادرة مقابل المال والأسلحة التي تدفقت من واشنطن خلال إدارة الرئيس السابق جو بايدن، أو التي “يحلم” الأوكرانيون بالحصول عليها في المستقبل القريب.

لا نعرف ماذا في جعبة ترامب من مفاجآت للسعودية أو حتى للسودان. فالدولتان على ضفتي البحر الأحمر ومتضررتان من القرصنة الحوثية. لكنه اختار الحلقة الأضعف مما يحدث في المنطقة حين طالب بأن يصبح مرور السفن التجارية والعسكرية الأميركية في قناة السويس مجانيا، أي أن على مصر ألا تطلب من الولايات المتحدة أي رسوم عن مرور سفنها في قناة السويس.

لو حدث وأن تجاوبت مصر مع مطلب ترامب – حتى جزئيا – لكان الموضوع سيأخذ أبعادا كبرى، بل وقد يفتح الباب للمطالبة بتحويل ممر وطني أنشئ على تراب وطني بمال ويد عاملة وطنيين، إلى مضيق دولي وتصبح المياه التي تمر بقناة السويس مياها دولية. لا نعرف أين يمكن أن يتوقف الأمر، لأن تشبيه قناة السويس وقناة بنما بمضيق هرمز أو مضيق باب المندب أو مضيق جبل طارق، سيعيد تعريف الكثير من المصطلحات في القانون الدولي والنقل في أعالي البحار. هذه خرائط جديدة ترسم للعالم أساسها الصفقات، وليس ما تم إرساؤه على مدى القرون من صراعات الدول والتاريخ العسكري واستكشاف العالم.

◄ ما يجعل الأمر معقدا وصعبا على الفهم هو انعدام الخطط المصرية في مواجهة الحوثي عسكريا بجيش يقول عنه أصحابه إنه جيش جبار ومزود بأفضل الأسلحة والمعدات والتدريب

لم نسمع رد فعل مصري إلى الآن. ربما هي الصدمة. تأخرت مصر بالفعل مع الحوثيين لأشهر طويلة واعتقدت أن القانون الدولي كفيل بردع الحوثيين. للدقة، إلى الآن لم تفعل مصر أي شيء لردع الحوثيين. كان تقديرا خاطئا باعتبارها المتضرر الأكبر من الفعل الحوثي. أما الآن، فإن الأبواب صارت مفتوحة لتدخل أميركي يحمل أول فاتورة بمليار دولار هي كلفة الشهر الأول من العمليات الحربية والقصف الأميركي للحوثيين. ليس هذا فحسب، بل إن ترامب يريد أن يحول الفاتورة الشهرية إلى حق أميركي مكتسب، على الأقل في المدى المنظور. وما يربحه ترامب من صفقته التي يريد فرضها على المصريين، سيجعل الآخرين يريدون مكاسب شبيهة، وصولا إلى تحويل قناة السويس المصرية إلى مضيق السويس الدولي.

والي مصر الخديوي محمد سعيد باشا والمهندس الفرنسي فرديناند دي لسبس يتقلبان في قبرهما الآن. كانا وراء تنفيذ فكرة حفر القناة لتوفير الأسابيع من زمن التجارة البحرية. فالسفن القادمة من الشرق كانت أول ما تعمله في زمن حكم المماليك في مصر هو الوصول إلى سواحل “المحروسة” على البحر الأحمر وتفريغ حمولتها من البضائع مثل التوابل وتحميلها على قوافل الجمال التي تأخذها إلى سواحل البحر المتوسط عبر صحراء مصر، لتستمر الرحلة من بعدها إلى أوروبا بأرباح التجارة المعروفة. وحين اكتشف الأوروبيون رأس الرجاء الصالح في حافة أفريقيا الجنوبية وصارت لديهم المعرفة الكافية بالطرق البحرية ومواعيد الريح الموسمية السنوية، انقطع طريق البحر الأحمر وصاروا يدورون حول أفريقيا ليصلوا أوروبا ويدخلوا البحر المتوسط من طرفه الآخر عند مضيق جبل طارق.

ثمة بعض الإشارات التاريخية التي تقول إن الفراعنة فكروا بقناة السويس. ثم جاء نابليون بفكرة شبيهة. لكن الثنائي محمد سعيد باشا ودي لسبس جعل الأمر ممكنا. جمعا المال والبطش بالفلاح المصري لينفذا مشروع القناة ويحققا معجزة هندسية. كان الثمن الذي دفعته مصر باهظا لتشييد قناة السويس. كان التاريخ في انتظار أثمان أكبر من أرواح وأموال واستقرار مصر والمصريين في سلسلة حروب مع دول كبرى وإسرائيل قبل أن تتمكن مصر من تأميم القناة واستعادة ما تعتبره حقها دون منازع. وإلى يومنا هذا، لا تزال قناة السويس – حتى من قبل نكبة “طوفان الأقصى” وكوارث عدم الاستقرار والدمار في غزة – مشكلة معقدة وحساسة نظرا لوقوعها في منطقة شائكة سياسيا وإستراتيجيا.

مصر قوة إقليمية كبرى. كتبنا في هذه الصحيفة مرات ومرات عن خطورة أن تترك الدول الكبرى دورها للآخرين لأن سرعان ما يجد الآخرون حصتهم فيما يحدث ويفتحون الباب لنوع مختلف من المشاكل. تصرفت مصر ببرود تحسد عليه. انتظرت إلى حين اكتمال ستة أشهر من “الحصار” الحوثي من جنوب البحر الأحمر وأصدرت إحصائية عن مجمل حجم خسائرها بسبب ما فعله الحوثي. تصرفت بطريقة إجرائية لا نفهمها.

لو أن مصر أقدمت مثلا على الاقتداء بالتاريخ القريب لندها اللدود إسرائيل حين اعتبر إغلاق مصر عبدالناصر مضائق تيران عملا عسكريا يبرر الحرب، لكان الوضع الإستراتيجي اليوم مختلفا تماما، ولجادلت مصر ترامب بأنها تشكره للمشاركة في ردع الحوثيين الذين يهددون السلم العالمي. لكن ترامب وصل إلى الحكم ووجد أن الحوثي وصل إلى مرحلة متقدمة من البلطجة البحرية. رجل الصفقات الذي يتدافع مع بنما على حق المرور المجاني بقناتها، ما الذي يمنعه من الضغط على المصريين للحصول على حقوق المرور المجاني في قناة السويس؟

◄ تشبيه قناة السويس وقناة بنما بمضيق هرمز أو مضيق باب المندب أو مضيق جبل طارق سيعيد تعريف الكثير من المصطلحات في القانون الدولي والنقل في أعالي البحار

كتبت مرة أن الحوثي وإيران يحتاجان إلى إجراءات ردع منذ يوم انطلاق مشاريعهما للسيطرة على جنوب الجزيرة العربية والإطلالة على مضيق باب المندب. كتبت وقلت إن من لا يذهب إلى تلك المناطق لاستعادة التوازن، فإن الحوثي أو إيران أو الاثنين معا، سيأتيان إليه. وها هو الحوثي يأتي لمصر أولا بصواريخه ومسيراته من خلال حجة غزة والتعرض لإسرائيل. لكن الأدهى والأمر أن الولايات المتحدة التي تتصدى له اليوم تريد مقابلا مفتوحا من مصر.

الحائط الواطي يجد من يتسلقه ويعبره. وترامب، منذ أن عاد إلى الحكم ورمى ببالونة الريفييرا الغزاوية ووجد الهرج والمرج المصريين والعربيين، صار يستسهل عبور حائطنا. الصمت المصري للساعة غير مفهوم. ولعل القيادة المصرية شغّلت بعض من يحبها من كبار الزعماء العرب في الوساطة للملمة الموضوع قبل أن يصبح “ريفييرا” أخرى؛ لعلهم ينجحون.

لكن ما يجعل الأمر معقدا وصعبا على الفهم هو انعدام الخطط المصرية في مواجهة الحوثي عسكريا بجيش يقول عنه أصحابه إنه جيش جبار ومزود بأفضل الأسلحة والمعدات والتدريب، أو بمواجهة ترامب دبلوماسيا بما تحمله مصر من رصيد في العلاقات مع الولايات المتحدة أولا، من قبل الخوض في علاقاتها الكثيرة والمهمة مع حلفاء عرب تتقدمهم الإمارات، وحلفاء غربيين تتقدمهم فرنسا.

لا يزال لدى المصريين الكثير مما يفعلونه قبل أن يترك الأمر ليكبر في رأس ترامب كي يتحول إلى مطلب لا يختلف عن ذاك الذي يضغط به على بنما ويبتزها. وكما شاهدنا أمام أعيننا، فإنه لا يوجد ما يمنع ترامب من أن يذهب بعيدا في التعامل مع المصريين بنفس الطريقة التي تعامل بها مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، راميا جانبا بكل شيء ومتجاوزا الوساطات والضغوط الأوروبية. هذا عالم ترامب الذي يعتقد أن بوسعه أن يفعل ما يشاء ساعة يشاء، في الوقت الذي تصبح فيه مصائر أمم، بل وتاريخها، على المحك.

ترامب يريد المال والصفقات والشكر والعرفان والنصر.. وعدّد كما تريد من مزايا له ولبلده. وعلى أقل اعتبار فإننا مضطرون إلى التعايش مع زعيم خطر في بلد الإمكانيات المطلقة الذي لا يجد من يردعه. التحرك البطيء أو اللاتحرك ليسا من الخيارات المتاحة.

9