السيادة المائية: كيف نجحت رؤية محمد السادس في جعل المغرب حصنا ضد الجفاف

المغرب يعاني على غرار العديد من البلدان ندرة مقلقة في موارده المائية تتفاقم بفترات الجفاف الممتدة بحدة غير مسبوقة، وأمام هذا التهديد الوجودي تحول ملف الموارد المائية إلى قضية أمن قومي.
الاثنين 2025/05/05
حصاد المياه: سدود ونواظم في القنيطرة

تحتاج إلى القيام بثلاث رحلات بين جنوب المغرب وشماله لإدراك أهمية ما يمكن أن نسمّيه السيادة المائية لهذا البلد الأخضر وتأثيرها على نوعية الحياة وتطوّرها خلال ربع قرن من حكم العاهل المغربي الملك محمد السادس. الرحلة الأولى خلال النهار حين تأخذ واحدا من الطرق السريعة الموازية للمحيط، من أقصى جنوب البلاد وصولا إلى طنجة. والرحلة الثانية خلال الليل على نفس الطريق. أما الرحلة الثالثة، ولو توفرت الإمكانيات، فجوية بطائرة خفيفة لا تأخذنا عاليا، وهو ما يمكّننا من رؤية ماذا يعني أن تقلب المشاريع المائية حياة الناس وتعيد تشكيلها ضمن رؤية أوسع للتنمية الاقتصادية. مثل هذه التنمية إنما تراعي التوزيع العادل لها، وكيف يمكن أن تنعكس بشكل إيجابي على الناس وطريقة حياتهم في بلد حقق الكثير زراعيا على مدى قرون.

نال المغرب حصة تنمية أولية بعد أن صار واضحا أن الثمانينات والتسعينات ستكون سنوات تراجع في حصاد المياه يقتضي إجراءات إطلاق شبكة إعادة توزيع لهذا الحصاد من خلال سدود ونواظم وتغيير بعض المسارات لسلسلة الأنهار التي تختط خارطة المغرب من أقصى جنوبه وصولا إلى طنجة في الشمال. كانت الشبكة مخططا أوليا لمنع، من بين ما يمكن أن تفعله، أن تتحول الأرض الزراعية المغربية إلى جيب جفاف كما شهدت بعض الدول.

لكن ذلك المخطط الأولي كان مجرد بداية لواحد من أهم مشروعات التنمية المتوازنة والعادلة سكانيا في العالم. لقد مرّ ربع قرن، هي عمر حكم العاهل المغربي الملك محمد السادس، من العمل المثابر الذي غيّر شكل حصة التنمية هذه إلى إعادة تأهيل اقتصادية عصبها الماء والزراعة ونجاح المغرب في إعادة تثبيت حضوره في الزراعة من خلال شبكة حديثة من هيكل ري وخدمات مائية وتجمعات سكانية تتمتع بفرص عصرية. عندما نقول إن المراقب يحتاج أن يمر لثلاث مرات في الرحلات المقترحة، لأننا نريد أن نرسم خريطة ما يحدث ولماذا.

◄ الجفاف الذي ضرب المنطقة خلال الأعوام القليلة الماضية، على الرغم من كل الصعوبات التي حملها معه، قدم للمغرب فرصة ما يسمى بـ"اختبار الإجهاد"

يعاني المغرب على غرار العديد من البلدان اليوم ندرة مقلقة في موارده المائية تتفاقم بفترات الجفاف المتكررة والممتدة بحدة غير مسبوقة. وأمام هذا التهديد الوجودي، تحول ملف الموارد المائية إلى قضية أمن قومي يحظى بإشراف مباشر وحازم من العاهل المغربي شخصيا.

اختط الملك محمد السادس مشروع المغرب العميق لإجراء التحول على الصعيدين الكمي والنوعي.

على الصعيد الكمي، ومنذ اعتلاء الملك محمد السادس للعرش عام 1999، تم إطلاق 42 سدا (منجزة أو قيد الإنجاز) بطاقة تخزين استثنائية تصل إلى 6745 مليون متر مكعب، يعكس كل سد منها التزاما ثابتا تجاه الأمن المائي والعدالة الترابية. وعلى سبيل المقارنة، يتجاوز هذا الرقم العدد الإجمالي للسدود المشيدة منذ الاستقلال وإلى غاية سنة 1999، وذلك بالرغم من الندرة الراهنة للمواقع الملائمة للبناء.

لكن الخطة الملكية كما تقول معلومات وزارة الموارد المائية، تسعى إلى بلوغ طاقة تخزينية إجمالية للسدود قدرها 27.3 مليار متر مكعب في أفق 2027، مما يضع المغرب ضمن البلدان الأفريقية الرائدة من حيث الطاقات المائية.

هذه الترسانة من السدود والقدرات التخزينية تؤمّن صمودا متناميا إزاء التقلبات المناخية. وهكذا سجل البرنامج الوطني للتزود بالماء الصالح للشرب ومياه السقي 2020 – 2027، والذي تحددت ميزانيته بداية في 115 مليار درهم، ارتفاعا في هذا الحد إلى 150 مليار درهم، كما أوردت مصادر في الوزارة من أنها جاءت بتعليمات ملكية، ما يكرّس الالتزام القوي للعاهل المغربي الملك محمد السادس بضمان الحصول على الماء كحق أساسي لكل مواطن.

أما على الصعيد النوعي، فتقول المصادر في الوزارة إنه طبقا “للرؤية المتبصرة والاستشرافية لجلالة الملك، فإن السدود ليست فقط منشآت عادية، بل إنها تشكل وعودا بالماء والحياة والفرص لمجموع التراب الوطني.” هذا ما يجعل كل سد تم بناؤه أو التخطيط له يجسد رؤية للتنمية المستدامة في خدمة المجالات الترابية.

هذا ما يجعل سياسات السدود والماء، التي يقودها الملك محمد السادس، عملا طويل الأمد، ورؤية ملكية عابرة للأجيال، تندرج، بشكل عميق، ضمن مقاربة إنسانية متضامنة تهدف إلى ضمان الوصول العادل بشكل دائم إلى الماء الصالح للشرب بالنسبة إلى جميع السكان، خاصة خلال فترة الأزمات المائية، وتعبئة وسائل الدولة للاستجابة بشكل فعال وسريع للحاجيات الخاصة للساكنة القروية، وجعل الماء رافعة إستراتيجية حقيقية لخلق القيمة الاقتصادية، والتماسك الاجتماعي، والتنمية المستدامة المندمجة على مجموع التراب الوطني.

تتجاوز الإستراتيجية المائية الشاملة الموجهة نحو الاستباق والعدالة الترابية في المغرب التي وضعها الملك محمد السادس البناء التقليدي للسدود، وباتت تندرج في منطق اندماج الموارد التقليدية وغير التقليدية (تحلية مياه البحر، وإعادة استعمال المياه العادمة، تحسين تدبير الموارد المائية)، وتقوم على التكامل الذكي بين السدود، ومحطات التحلية، وإعادة استعمال المياه العادمة وتثمين الموارد. أضف إلى ذلك أن شبكات الطرقات السريعة والتي أعادت رسم خارطة النقل في المغرب، جاءت رديفا لتعزيز البنية التحتية لمشروع السيادة المائية.

◄ لقد مر ربع قرن هي عمر حكم العاهل المغربي الملك محمد السادس من العمل المثابر الذي غير شكل حصة التنمية إلى إعادة تأهيل اقتصادية عصبها الماء والزراعة

استثمر المغرب، بشكل كبير، في بنيات تحتية، كمحطات التحلية في أكادير، والعيون، والداخلة، والدار البيضاء (هذه الأخيرة، الأكبر في أفريقيا، توجد في طور الإنجاز) بقدرة تحلية تصل إلى 560 مليون متر مكعب في أفق 2027، إضافة إلى قدرة على معالجة المياه العادمة بنحو 50 مليون متر مكعب.

لكن من أهم مزايا الرؤية الملكية أنها تندرج في منطق تكاملي للسدود الكبرى، بما يضمن تغطية قصوى للمناطق في فترة الإجهاد المائي الحاد. فالعدالة المائية في المغرب مهمة وضرورية لأن من دون هذا التوزيع المنطقي للموارد، وتشغيل الشبكة كوحدة متكاملة تغطي كامل التراب الوطني، فإن ملامح القصور سرعان ما تخلق فجوات إنتاجية، وقد تنعكس على ساكنة المناطق لتستعيد مرحلة صعبة مرت بها البلاد، وقد عملت الرؤية الملكية على تجاوزها بالكامل. ولهذا الغرض تم تخصيص المشروع الضخم لنقل المياه بين أحواض سبو، وأبي رقراق، وأم الربيع على مسافة 67 كلم، ويمكن من نقل سنوي من 350 إلى 470 مليون متر مكعب، ما يجسد بالملموس الرؤية الملكية للتضامن الترابي القوي والحيوي.

الجفاف الذي ضرب المنطقة خلال الأعوام القليلة الماضية، على الرغم من كل الصعوبات التي حملها معه، قدم للمغرب فرصة ما يسمى بـ“اختبار الإجهاد”. اليوم يستطيع المغرب أن ينظر إلى خريطة الإجهاد هذه ويعالج الثغرات فيها. هذه خريطة مليئة بالتفاصيل وستجعل التخطيط عمليا في نقاط ومحطات كثيرة.

التجربة التي امتدت على مدى ربع قرن، منذ يوم اعتلى العاهل المغربي العرش وتبنى رؤية السيادة المائية كصنو للسيادة الترابية وكضرورة تكاملية للسيادة الاجتماعية والاقتصادية، وصلت إلى مرحلة ملموسة من النضج واجتازت واحدا من أصعب الامتحانات عندما تمكن حصن المغرب من الصمود أمام موجة كاسحة من الجفاف، وها هو يخرج منها محملا بالتجارب والخبرة بدلا من الضغط الاجتماعي والهجرة الداخلية والإحساس بانعدام العدالة المناطقية والجهوية.

السؤال الشامل الذي طرحته رؤية الملك محمد السادس قبل ربع قرن هو: كيف يصبح المغرب حصنا ضد الجفاف؟

9