تركيا على حدود إسرائيل.. فلا ضرورة لاستعجال رسم خرائط سوريا

ما حدث في نكبة "طوفان الأقصى" للفلسطينيين أولا وحزب الله ثانيا قرر أردوغان أن يحوله لصالحه ولا يزال من المبكر إحصاء حجم الربح الكلي، لكن سوريا سقطت كاملة في يد تركيا.
الاثنين 2025/04/07
الشرع فرصة ذهبية لأردوغان

حافة الحدود الإستراتيجية هي ما يحدد وضع العلاقة الآن بين تركيا وإسرائيل في سوريا. حدود الأتراك، إذا أخذت درعا مثلا، هي الحدود في الجولان مع إطلالة على إسرائيل. حدود الإسرائيليين، بهذا القياس، تكون في كل سوريا، لكنها لا حدود عمليا.

الأتراك يدركون هذا جيدا. يعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن ما حققه في سوريا هو سبق إستراتيجي. لم يدخل بالطبع في منافسة مع الإسرائيليين. مارس فقط صبرا إستراتيجيا في أهدافه التي يريد تحقيقها في سوريا، ثم بدأت ثمرات الصبر تتساقط في سلته وهو يجني منها ما يريد. لا شك أنه كان ذكيا ولم يستعجل. وما حدث في نكبة “طوفان الأقصى” للفلسطينيين أولا وحزب الله ثانيا، قرر أردوغان أن يحوله لصالحه. لا يزال من المبكر إحصاء حجم الربح الكلي، لكن سوريا سقطت كاملة في يد تركيا.

من أهم العوامل الاستكمالية لسقوط سوريا في حضن الأتراك، أن ثمة طرفا مهما قادرا على ضمان استمرار تمويل المشروع التركي الذي بدأ عام 2012. القطريون موجودون، والآن يحسون أكثر من أي وقت مضى أن بوسعهم الربط بين الخليج والبحر المتوسط من خلال سوريا، شيء أشبه بالهلال الشيعي الذي حلمت به إيران لتصبح طهران على ضفاف المتوسط. سوريا بلد محوري جغرافيا وثقافيا وسياسيا. الأتراك يرون فيه امتدادا تاريخيا لكل طموحاتهم. والقطريون، الذين يرون في أنفسهم قوة صاعدة بدافع المال والسياسة وعدم قدرة الآخرين على مجاراتهم سياسيا، خصوصا من منافسيهم الخليجيين، تصبح سوريا بالنسبة إليهم ربحا مضاعفا، خصوصا وأنهم في الأصل قاموا بالإنفاق الكبير على المشروع، وحان الآن زمن جني المكاسب.

◄ سوريا مدخل مهم للمنطقة، سواء أكان ذلك من الناحية السياسية أم الثقافية، واليوم بما توفره من فرصة اقتصادية كبيرة، وحجم سكاني متوسط، هي نقطة تحول لا يمكن الاستهانة بها

من المفيد تشخيص أن لا أزمة حقيقية بين ما يريده الأتراك والإسرائيليون في سوريا. تعايش الطرفان على مدى سنوات الحرب الأهلية السورية بلا مشاكل تذكر. نسّق الروس الأمر بشكل فعال، وانعدمت تقريبا الاحتكاكات بين الطرفين، وكانت النتيجة أن نظام بشار الأسد تأقلم مع الواقع في الجنوب. من الضروري القول إن الوضع في الجنوب، أي على خط الجولان الفاصل، كان أفضل دائما من الوضع في الشمال، بحكم العامل الكردي بالدرجة الأولى.

بوصول حكومة أحمد الشرع إلى دمشق، وبكل ما يعنيه هذا الأمر من ربح لتركيا عموما ولأردوغان خصوصا، تبدو الأمور مهيأة أكثر من أي وقت مضى لأن يتم التنسيق بين تركيا وإسرائيل. ضع جانبا الدعاية الجارية التي توجهها تركيا على لسان كبار مسؤوليها ضد إسرائيل بسبب ما يجري في غزة، إلا أن هذا إلى زوال آجلا أم عاجلا. لا عداء حقيقيا بين إسرائيل وتركيا. الإسلام السياسي الذي يوجه تركيا اليوم هو نسخة هادئة تعرف إسرائيل أنها ليست مضرة، ويمكنها التأقلم معها.

الرئيس الشرع يدرك هذا جيدا ويتصرف على أساسه. والتصريحات التركية خلال الأيام الماضية تدور في هذا السياق، وما سمعناه من وزير الخارجية التركي هاكان فيدان يؤكد هذا التصور ولا ينفيه. قد تكون الطائرات الإسرائيلية قد هاجمت المطارات السورية ودمرت بقايا تحصينات تركها النظام في رحيله المستعجل من كل مسؤولية يوم قرر بشار الأسد النجاة بنفسه وعائلته على حساب نجاة النظام. لكن كل ما يحتاجه الأتراك هو عملية تنسيق تفصيلية مع الإسرائيليين، ألمح إليها فيدان نفسه، لكي تتم إجراءات تعايش النظام السوري الجديد مع الإسرائيليين. الإسلاميون السوريون الذين يحكمون سوريا اليوم ليسوا بصدد فتح باب العداء مع الإسرائيليين، ومن الواضح أن الأتراك يشجعونهم على العمل على إيجاد صيغة سلام مقبولة. لا يزال من المبكر الحديث عن سلام بين سوريا وإسرائيل، لكن التلميحات التركية على لسان فيدان واضحة لا لبس فيها.

تمكن الأتراك من تحقيق الكثير من الإنجازات في الإقليم. لا شك أن هناك مشاكل كثيرة تنتظرهم لحلها. لكنهم أكثر من مستعدين للتفكير في حلول.

لنضع جانبا أزمتين تركيتين. الأولى، هي أزمة سياسية داخلية تتعلق بوضع أردوغان السياسي نفسه في مواجهة المعارضة السياسية له، والتي بلغت ذروتها باعتقال السلطات معارضه الأهم عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو. هذه أزمة ليست هينة وليس من الوارد تخيل أن أردوغان سيتجاوزها بسهولة، ولهذا التف لوضعها في إطار قانوني وجعلها عن عقود واختلاسات. كان يحاول نزع السياسي منها، وجعلها قضية فساد.

أما الأزمة الثانية فهي أقدم. فتركيا تعيش تراجعا اقتصاديا كبيرا. ما يحكمه أردوغان هو بلد ليس كذلك الذي كان من -فلنقل- قبل عشرة أعوام. تركيا الآن مرهقة بالديون وتحاول الخروج من المشاكل بصيغ لم تثبت فاعليتها إلى حد الآن.

◄ فكرة أن تركيا على حدود إسرائيل وليس العكس، تعطي رسم الخرائط وقته الكافي من دون أن يشعر أحد بأن عليه أن يستعجل شيئا

لكن أردوغان سياسي ماهر -أو ماكر- وقد تمكن دائما من فصل الإقليمي، الذي يثبت تفوقه وأهميته، عن مشاكله الداخلية السياسية أو المالية. وفي هذا، من النادر أن نسمع صوتا داخليا معارضا له، حتى في أسوأ أيام خلافه مع دول الإقليم، وخصوصا مع السعودية أو الإمارات أو مصر. الأتراك يعتبرون أن ثمة دورا سياسيا على بلادهم أن تقوم به وأن تبقى القوة المهيمنة على شرق المتوسط، بل والمتوسط كله. وإذا أضفنا حساسيات المنطقة التي يغذيها الخوف من تغير معادلة التواجد الكردي، فإن لأردوغان مطلق الحرية في أن يمارس ما يريده من قرارات يتخذها للوصول إلى ما يعد مصلحة تركية عليا. هذا وضع مثالي لزعيم لديه أجندة إقليمية مثل تلك التي لدى أردوغان.

لو جمعنا هذه المعطيات معًا، سنرى أن القصف الإسرائيلي للقواعد في سوريا يفيد أردوغان، ولا يتقاطع مع ما يريده. بل إنه يعطي الرئيس التركي ورقة صوتية يستخدمها متى شاء عندما يتعلق الأمر بلوم الإسرائيليين. تريدون أردوغان مناضلا تستهدفه إسرائيل، هاكم هذا المناضل. صحيح أن طائرات أف16 التركية تتلقى الصيانة في إسرائيل في شكل عقود دورية، لكن هذا موضوع يمكن أن يترك تحت الرف من دون الإشارة إليه. هل زايد الأتراك منذ انطلاقة “طوفان الأقصى” إلى يومنا هذا على أي موقف لطرف آخر؟ لا شك أن هذا لم يحدث، حتى وإن كان من يسحقون تحت تفجيرات القصف إخوان حماس، الأقرب والأعز على قلب الإسلاميين الأتراك.

في مثل هذه الأجواء يستطيع أردوغان أن يقدم سياسات إقليمية مزهرة، لكنها تحقق طموحه الأهم والذي سعى إليه على مدى سنوات طويلة: السيطرة بالكامل على سوريا.

أحمد الشرع فرصة ذهبية لأردوغان. من الصعب الحكم إن كان الرجلان قد التقيا لقاءات ثنائية عدة مرات، أو التقيا في الأصل قبل انطلاقة الشرع الكبرى للتحول من أبومحمد الجولاني إلى أحمد الشرع، ومن زعيم قوة عسكرية قاعدية ضاربة إلى رئيس لسوريا، يبدي العالم كل التقبل لوجوده بين الزعماء الذين يمكن التحدّث إليهم والتواصل معهم، بل وأن يوفر لسوريا فرصة الخروج من نفقها المظلم الذي أدخلها نظام بشار الأسد فيه بسلسلة لا تنتهي من الحماقات. هذا التنسيق المنتظر بين تركيا وسوريا هو ثمرة تخطيط إستراتيجي مهم وكبير بين الأتراك والقطريين. هو بناء استثنائي لبلد تعمد العرب تركه من دون حد أدنى من العمل على الرد على سؤال: من يتحمل مسؤولية إهمال سوريا إلى هذا المستوى، للعودة بعد كل هذه السنوات الطويلة واتهام أردوغان بأنه انتهازي وصياد لفرص؟ هل كان أردوغان قنّاص فرص، أم الآخرون هم أساتذة تضييعها؟

إنها فرصة ذهبية بما تحمله سوريا من إمكانيات كثيرة وكبيرة. قد تكون الجغرافيا ما نلحظه مباشرة. لكن سوريا مدخل مهم للمنطقة، سواء أكان ذلك من الناحية السياسية أم الثقافية، واليوم بما توفره من فرصة اقتصادية كبيرة، وحجم سكاني متوسط، هي نقطة تحول لا يمكن الاستهانة بها. حتى السياسي منها، علينا أن ننظر وأن نسأل: ماذا يمكن أن يحدث لو دخلت سوريا على خط السلام (وليس التطبيع كما يحلو للبعض بتعمد خنق طبيعة الصراع في منطقتنا)؟ سلام إقليمي تكون سوريا طرفا فيه مسألة ليست هينة، لأن هذا يقطع الطريق مرة وإلى الأبد على مزايد مثل إيران (ولا شك باستخدام زعيم ساذج مثل بشار الأسد) كي لا يأتي ويقول إنه يحارب إسرائيل والصهيونية، في حين أن إيران تتاجر بنا دون أدنى اعتبار.

◄ سوريا بلد محوري جغرافيا وثقافيا وسياسيا والأتراك يرون فيه امتدادا تاريخيا لكل طموحاتهم، والقطريون الذين يرون في أنفسهم قوة صاعدة بدافع المال والسياسة سوريا بالنسبة إليهم ربح مضاعف

لا يزال الشرع في علم المجهول، على الأقل لكثير من السوريين. لكن أردوغان يبدو قادرا على تسييره كما يريد، وأن ما سنراه أكثر من حصر الأمر بعملية انتقال للسلطة. فلننظر إلى عملية الانتقال البيروقراطية المعقدة التي تتم حاليا، بين بيروقراطية دولة تركها الأسد، وبيروقراطية دولة يتسلمها الشرع. هي أجواء -يا للمفارقة- تشبه تلك التي جرت قبل أكثر قليلا من قرن من الزمن، عندما تحولت البيروقراطية الحكومية العثمانية إلى بيروقراطية عمل الحكومة السورية الجديدة.

تركيا التي تستطلع القواعد الجوية السورية وتحاول أن تضع خريطة طريق لها في ما خلفته الحرب الأهلية السورية، لن تستعجل ردود الفعل على ما يفعله الإسرائيليون. ولا الإسرائيليون بصدد تبني ردود فعل كبرى على ما يمكن أن يسمعوه من الشرع أو حكومته على قصفهم وعنجهيتهم. نحن أمام عملية رسم لخرائط المنطقة من جديد وهذا يتطلب الكثير من الصبر والتأني. والأتراك والإسرائيليون يدركون هذا. ولأن الشرع وأعضاء حكومته يدركون أنهم في صميم لعبة الأمم هذه بخرائطها المصيرية، فلا تستغربوا أن “نستمع” إلى كل هذا الصمت منهم وانعدام ردود الفعل على الغارات الإسرائيلية. لا أحد يريد أن يجاري طوفانات الصمت الفارغة التي أوصلت المنطقة إلى ما هي عليه الآن.

هذا صمت أو هدوء أو سمه ما شئت. لكن فكرة أن تركيا على حدود إسرائيل وليس العكس، تعطي رسم الخرائط وقته الكافي من دون أن يشعر أحد بأن عليه أن يستعجل شيئا.

 

اقرأ أيضا:

         • تركيا وسياسة أنثى العنكبوت الأسود في سوريا

9