فيلم صيني ينتصر للعائلة وسعادتها

يكتسب الشريط المصوّر أهميّته من القدرة على تحفيز أفكار المشاهد وتخليق جماليات انفعالية لديه حصيلة التفاعل مع ما هو مشترك إنساني؛ وذلك من خلال كيفية تقديم الحدث فيه. وليس غريبا أن يدرج الفيلم التسجيلي الصيني الطويل “الحلم الكونفوشي” في هذا الباب بما قدّمته مشاهده من صراعات متداخلة على غير مستوى، تتجاوز البيئة الثقافية التي صدر عنها.
تأخذنا المخرجة والمصوّرة الصينية ميجي لي في أول أعمالها التسجيلية الطويلة “الحلم الكونفوشي” (87 دقيقة، إنتاج صيني -أميركي)، مع الشخصية المحورية “تشاويان” (34 سنة)، بمآزقها العائلية وفي رحلة تحوّلاتها النفسية والروحية. نجد أنفسنا أمام شبكة علاقات مأزومة بين هذه الأمّ لطفل وحيد “تشن” (بسنواته الخمس) وبين زوجها، ومع والدته، مرورا دائما بما ينتابها من أسئلة تتنازعها حيال ما هو صحيح وجيّد في تربية ابنها، وسلوك يعود على عائلتها بالسعادة.
أزمات ذاتية وعائلية
العنوان المحوري الذي تندرج ضمنه هذه المشاعر المحتدمة هو الحداثة – التقاليد، بسؤاله الرئيسي: ما الطريقة الأنسب لتربية تشن، هل وفق متطلّبات العصر الإنتاجي – الاستهلاكي، وما يستدعيه من تنافس، أم باختبار حياة مختلفة بالعودة إلى الثقافة الكنفوشيّة المتجذّرة منذ خمسة آلاف عام، والتي تُعنى تعاليمها بأخلاقيات الفرد وبحياته الروحية، وبتناغم العلاقات الاجتماعية؟ فكيف تصوّر لنا المشاهد هذه الأزمات الذاتية – العائلية، وتصعّدها انتهاءً بلحظة الحقيقة المنبجسة عن سلسلة تجارب مرّت بها تشاويان لترسم خاتمة سعيدة لها ولعائلتها؟
وجدت تشاويان المختصّة في مجال تقني، بعد زيارة عمّتها عام 2009، تناغما وغبطة يسودان العائلات، ومردّ ذلك تطبيق التعاليم الكونفوشيّة. هذه الزيارة كانت العنصر المفارق في حياتها، فقرّرت أن تدرس هذه التعاليم لتمنح عائلتها السعادة.
يفتتح المشهد بتصوير تشاويان ترتّل في الكتاب الكلاسيكي في مسكنها، وهذا ما يحتلّ مساحة كبيرة من المشاهد المكرّرة تارة وحدها وتارة أخرى مع ابنها، تدرّسه ويستظهر لها ما حفظه من فصول، وصوت المذياع يبث تراتيل وعظات كونفوشيّة باستمرار.
التفاوت بين التعاليم الأخلاقية والسلوك وجّه الكاميرا في اختيار المشاهد لتحرّكات البطلة حين لم تحقّق الغاية المرجوّة
إنّما ثمة مشهد بانوراميّ مُبكر لمدينة الإسمنت والزجاج والضجيج تتأمّله تشاويان في لقطة تفصح عن فراغها ورفضها لإيقاع هذه الحياة، واتّخاذ قرارها تاليا بالتغيير.
وتنتقل عدسة الكاميرا لرصد الحياة اليومية لنساء عاملات، ولها مع عائلتها، كاشفة الصرامة التي تتعامل بها مع الزوج والابن على وجه الخصوص، مع ملاحظة غياب أيّ حوار بينها وبين حماتها التي تقيم معهم في الشقة الضيّقة.
يغيب الجوّ المرح والعفويّة بين أفراد الأسرة، وتظهر تشاويان متسيّدة، وصاحبة القرار في أيّ أمر، لا سيما في شأن إرسال طفلها إلى مخيّم صيفي ليتعلّم التقاليد الكونفوشيّة، ذلك بعد أن تريه مقطع فيديو لأنشطة أطفال المخيّم.
تركّز الكاميرا على وجه الأب الصامت وندرة كلامه في وضع كأنّه مسلوب الإرادة، كما والدته التي تواصل عملها مستاءة من هذا القرار الذي حرمها حفيدها، وحيث تفصح في مشهد لاحق عن غضبها من ابنها الذي لا يعترض، ومن زوجته التي ترى أن طريقة تربيتها هي المثلى، فتدّعي أنّها على صواب والجميع على خطأ.
وتضيف (أمام الكاميرا) أنّها تدرس التعاليم لكنّها لم تكتسب أيّا منها. أمّا من وجهة نظر الزوجة، فأسلوب الجدّة لا يناسب ابنها؛ إذ تجد دلالا مفرطا لا يزرع في نفسه قوة الإرادة والاعتماد على النفس. وفي السياق نفسه نشاهد حوارا بين الزوج وأمّه حيال استيائها، حيث يحتجّ موضّحا أنها زوجته وينبغي أن يحتمل طباعها، فهي لا تتعمّد إغضاب أحد، بل إنّ فلسفتها في الحياة تؤزّم العلاقات مع الجميع.
مشاهد مفاتيح
هذا التفاوت بين التعاليم الأخلاقية والسلوك – النتيجة وجّه عدسة الكاميرا في اختيار المشاهد لتحرّكات تشاويان حين لم تحقّق الغاية المرجوّة. وثمة لحظات درامية لافتة نتوقّف أمامها، كأنّما هي محطّات بنت التحوّلات، أذكر ثلاثة منها:
أولا، الطفل تشن في المخيّم، يفتقد والديه، وينتظر عودتهما يوميا لاصطحابه، وفي اتصال هاتفي معهما يبكي، جاعلا أباه يتأثر موضّحا لزوجته أنّ هذه التعاليم لا تناسب سنّ ابنهما، فهذا الضغط سيحدث لديه انفجارا.. لتتكرّر المشاجرات بينهما وصولا إلى مشهد حاسم لنقاش عنيف أمام الطفل يترك الأب على إثره الشقة.
في المشهد الثاني، تلاحق الكاميرا تشن وهو يمسك بثياب أمّه تارة، ويذهب ليشدّ والده تارة أخرى، في لعبة حركية – صوتية تكتم النفس من تصعيد كلامي ينتهي بصوت الصفير، يرافق وجه الصغير الحائر، ليعود صوته الطفولي الضاحك راكبا درّاجته، ربما هربا من هذه الضغوط.
أما المشهد الثالث، فقد جاء بعد رفض المحكمة طلب انفصال تشاويان عن زوجها، وانتقالها للعيش مدة عند صديقتها، ومن ثمّ في شقة مستقلة، ومواظبتها على دراسة التعاليم الكونفوشيّة ومتابعة المحاضرات.
وفي لقطة مضاعفة لوجه تشاويان تظهر تأثّرها بكلام المعلّم عن أثر الشجارات العائلية في نفس الابن، حين يقول “إذا تشاجرت مع زوجك أمام ابنك، فهذا سيجعل جانبه الأيسر يتشاجر مع جانبه الأيمن. وإذا لم تعترفي بأخطائك، فكيف تريدين أن يكون ابنك؟”. لتطلب تقديم شهادة في حصة لاحقة تعترف فيها أن كلّ ما تعلّمته من تعاليم أخلاقية لم يوصلها إلاّ إلى المزيد من التعاسة لأسرتها والتفكّك. واكتشفت أنهّا خلال تعليم ابنها كانت تنضج ويتفتّح وعيها، وينموان معا.
لعلّ الأمكنة المختلفة التي صوّرت فيها تشاويان وتشن بين شقتي والده ووالدته، ومع جدّيه لأبيه أو جديه لأمه، خير دليل على التشرذم، وإبراز الصراعات المتقاطعة والتفاصيل الخلافية بين الزوجين.
وفي مفهوم كلّ منهما للسعادة: التلقائيّة وبعض الراحة، أو المشقّة طلبا للكمال، يرتسم حوار الزوج برغبته في التحدّث مع ابنه عن الاستراتيجيات ليكون ناجحا في مجتمع السوق والأعمال، ومع الزوجة، التي على الرغم من نيلها درجة الماجستير في تخصّص علمي، لم تجد أمثولة واحدة أسهمت في توجيه حياتها. فدأبت على فهم ثقافة الاكتفاء والتقشّف لترسيخ المعنى الحقيقي للحياة في ابنها طلبا للسعادة؛ وهو ما ينقص هذا العالم الاستهلاكي ذي الإيقاع السريع.
المعلّم قال “لا قطعة من الثياب صنعت بسهولة. كل وجبة طعام احتاجت عملا شاقّا للحصول عليها. طبق أرزّ وكوب حساء يكفي”.
ويقول أيضا “ينبغي أن أطبّق ما أتعلّمه. أن أكون ما أقرأ. أتأمّل ذاتي يوميا ثلاث مرّات لأرى إذا كنت خلوقا مع الآخرين، وإذا كنت مخلصا مع أصدقائي”.
تنسجم هذه المقولات مع نصح الأصدقاء في جلساتهم؛ إذا لم يتوفّر السلام في المنزل، فلن يتمكّن تشن من تعلّم أيّ شيء. نأخذ أحيانا خطوة واحدة إلى الوراء لنتقدّم خطوات إلى الأمام، وإذا كنّا نحارب من أجل الأشياء الصغيرة فلا ننتهي أبدا.
في توقيت تصوير ذكي بتقنية الفلاش باك من خلال ألبوم صور فوتوغرافية وتسجيلات فيديو، عودة إلى البدايات، للتعبير عن تأمّل تشاويان في قرارها، مستعيدة ماضيها مع زوجها زميل الدراسة (2000)، وزفافهما في العام 2008، وإنجابهما تشن.
تتحدّث عن انكسار أحلامها في رجل كانت تعرفه مليئا بالأفكار والطموحات، ولم يعد كما كان. إنّما النقطة المحورية هي وجود طفل تريد تكريس حياتها له بعد عدولها عن قرار إخباره بأنها ستبقى لأجله، الأمر الذي سيؤلمه حين يكبر، وهو لم يكن مطلبه كما تحدس بمُحاجّته لها مستقبلا.
"الحلم الكونفوشي" المشارك في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته الرابعة (فبراير 2020)، والحاصل على جائزة لجنة التحكيم، ينتصر للعائلة والتضحية في سبيل سعادة الجميع، “فالأولاد لا ينتمون إلينا، إنّنا نقودهم في جزء من الطريق فقط، ليأخذ كلّ منا مساره الخاص”. هكذا اقتنعت بحديث زوجها بعودة الحوار بينهما بعد أكثر من سنة، لينغلق المشهد الختامي على لقطة في المستشفى تجمع الأبوين مع تشن وأخته المولودة حديثا، بعد ثلاث سنوات من لمّ شمل العائلة.