التاريخ يشبه المسكن.. لا ينبغي هدمه بالأكاذيب

شارك فيلم “أسماء الزهور” بلغته الإسبانية في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته الأخيرة، بنسخة مترجمة إلى العربية. وقد حاز تنويها خاصا من لجنة التحكيم وفاز بجائزة الجمهور. وهو أول الأفلام الروائية الطويلة للمخرج الإيراني بهمن تافوسي الذي أخرج فيلمه الوثائقي الطويل “بروفة من أجل التنفيذ” (2013) الحاصل على عدة ترشيحات وجوائز من أكثر من خمسين مهرجانا سينمائيا.
يجسّد الفيلم الروائي الطويل “أسماء الزهور” للمخرج بهمن تافوسي فكرة تُعنى بما تجذّر في الذاكرة الشعبية عن حكايات من نسج المخيّلة تُحكى على أنّها حقيقة مقدّسة حول شخصية الثائر الكوبي تشي غيفارا. جاء التركيز على فكرة مكثّفة تصويريا تخصّ المرأة في محاولة انتسابها للتاريخ من خلال اقترانها بهذه الشخصية الأيقونة.
وفي مشاهد مكررة وشبه صامتة، تتقدّم الصورة إزاء تراجع الحوارات، في اقتصاد حكي بيّن في رؤية سينمائية مقصودة. يتخلّل المشاهد والحوارات صوت الراوي في الخلفية.
والقصّة ليست قصة زعيم “حرب العصابات” الطبيب والشاعر المتمرّد تشي غيفارا، فهو لا يظهر إلاّ في مشهد وحيد لصورتين عملاقتين توثّقان حدث/ حقيقة موته، إنما هي قصة المدرّسة الريفية البوليفية جوليا التي قدّمت له طبق حساء في أثناء أسره في المدرسة المتهالكة قبيل إعدامه. وتدّعي أنّه قرأ عليها قصيدة “أسماء الزهور”؛ هذا دأبها منذ خمسين عاما، بالارتزاق ممّا تروي زورا لتلامذة المدرسة والسوّاح الذين يقصدون القرية النائية للتبرّك بمياه البحيرة المقدّسة.
قصة مشتركة
تبدأ أحداث الفيلم (إنتاج مشترك بوليفي، كندي، أميركي 2019) في زمن استعداد الحكومة البوليفية للاحتفال بالذكرى الخمسين لوفاة أرنستو غيفارا (14 يونيو 1928/ 9 أكتوبر 1967)، في مبنى المدرسة الذي اعتقل فيه؛ وذلك بعد اكتشاف القرية القريبة من لا هيغويرا، حيث قابل الزعيم الكوبي المدرّسة جوليا (جوليا كورتيز) لتقدّم له الحساء في صبيحة 9 أكتوبر.
كان من ضمن برنامج الاحتفال أن تشارك السيدة العجوز قصّتها التاريخية مع الزوّار القادمين من مختلف أنحاء العالم، إنّما المفارقة أنها، وعلى الرغم من سردها القصة نفسها على مدى عقود، يتبيّن للمنظّمين أن نساء ريفيات أخريات يتقدّمن بالقصة نفسها، قصة “الحساء والزهرة” على أنها قصة كلّ منهنّ الخاصة. لتبدأ رحلة تقصّيهم حقيقة المدرّسة والحكاية على حدّ السواء، بعد منعها من المشاركة في الاحتفال، وملاحقة الشبان الذين يسهمون في تشويه السياحة باختلاق الأكاذيب حول البحيرة التي باركها تشي غيفارا.
يصوّر الفيلم، سيناريو وإخراج الإيراني بهمن تافوسي، والمقيم في كندا، مشاهد في حركة بطيئة كأنها لوحات مرسومة، أو صور فوتوغرافية للطبيعة والوجوه الصامتة، حتى وإن تكلّم أصحاب هذه الوجوه. كأنّ عين الكاميرا نافذة على التاريخ، ومسبار للعمق الإنساني.
الشخصية المحورية هي شخصية جوليا المدرّسة العجوز من السكان المحليّين، لا تتقدّم بأي كلمة أو تعبير في وجهها، بل تصوّر في مشاهد محدودة في كوخها، تعدّ الحساء وتحضِر الخبز من كوّة مطبخها، وفي حركتها المتباطئة طوال الطريق الجبليّة الوعرة، في ذهابها اليومي إلى المدرسة بمبناها المتآكل، والماثلة منذ عقود، مرورا بهيكل سيارة صدئ وإطارات مطّاطية، يرافقها ابن جارتها المضطرب عقليا، وهو يمسك بصورتها حين كانت شابة.
وهي تحمل بيمناها جرة تحوي زهرتين وبيسراها وعاء فخاريا للحساء الذي أعدّته، بوصفهما شاهدين حسيّين يرافقان قصتها أمام التلامذة، وأمام الجمهور الذي لا نراه. إنما نرى تحضيرات الجنود للمنصة والكراسي ولرفع صورتين للمحتفى به إزاء بوستر يعلن الحدث “الذكرى الخمسين لوفاة الرفيق غيفارا”.
يبرز الفيلم إذن، أنه فيلم صورة بامتياز، بما تختزنه من محمولات دالة لا تحتاج إلى الإفصاح بوساطة الكلمة عن رؤية المخرج؛ وتقنيات تصوير مشغولة بإحكام، بحيث تتناوب صور الأمكنة الريفية، في لقطات بانورامية تارة للجبال والأكواخ ومكان الاحتفال، وأخرى مضاعفة لأجزاء وتفاصيل من مبنى المدرسة، لغرفة الصف، ولمقعد دراسيّ منفرد، وللنافذة، ولرفّ خشبيّ فارغ توضع عليه صورة المدرّسة ومزهريتها ووعاء الحساء، ثم نراه خاليا.
وللوح الأسود حيث كتب عليه عنوان القصيدة “أسماء الزهور”، ومحى أبرز المنظّمين الكتابات بعد اكتشافهم أنّ الحكاية من نسج الخيال.. في لعبة تصوير للظهور والاختفاء، الكتابة والمحو، الوضوح والضبابية.
وفي كوخ المُدرّسة، لقطات تثبت على مجموعة متنوّعة من الخضار معدّة لتحضير الحساء، وكوّة رصّفت على حافتها أرغفة خبز تبدأ بالتناقص شيئا فشيئا ليبقى في مشهد الختام رغيف واحد لعجوز وحيدة بغير حكاية؛ إذ منعت من سردها بعد ظهور جوليا الحقيقيّة التي تسرد حكاية تقديمها الحساء لغيفارا، من غير أن يلقي عليها قصيدة “أسماء الزهور” على الإطلاق.
رمزية الزهور
لعلّ بعض المشاهد تُعبّر عن رؤية الفيلم. منها مشهد أحد المنظّمين البارزين للاحتفال، في سعيه للوصول إلى عنوان المدرّسة الحقيقية جوليا، حيث يرشو أحد الشبّان لتزويده بالمطلوب، ويسأله في لقائهما على ضفة البحيرة عن سبب تقديس مياهها من قبل المحليّين، وعن ثمن الزجاجة المعبّأة منها والمعدّة للبيع.
وفي تعقيب لاحق على إجابة الفتى بأن مياه البحيرة تشفي من عدة أمراض وتمنح السعادة لشاربها، وتساعد النساء على الزواج من الرجل الطيّب وعلى الحمل، يدلي لمرافقه بأنّ هذا الخداع والتزييف سبب تأخّر مجتمعهم وبلادهم. كأنّه يقول “ما الذي بقي من مساعي غيفارا؟”. هذا القول يتعاضد مع فكرة الفيلم الذي يطرح قضية الإيهام وتصديق الخرافة في بعدها النفسي، وقضية الميراث الأسطوري الشعبي في بعده الاجتماعي في البيئة اللاتينية الحاضنة. غير أنّ اللافت هو القمع العسكري المتمثّل في تفريغ القرية من شبّانها، وترك النسوة وحيدات، ومنعهنّ من مقابلة الزوّار وسرد الحكايات المزيّفة عليهم في محاولة لإصلاح هذا المجتمع.
صوت المذياع يرافق صورة منظّم الاحتفال في سيّارته عبر دروب القرية، يخبر عن إنجازات الحكومة بتأسيس المصانع لتأمين فرص عمل بدلا من امتهان سياحة غير نظيفة. كما يخبر الكولونيل العجوز في أحد لقاءاته بها عن السجن الذي يشبه المستشفى والمدرسة؛ إذ وزّع الآلات الموسيقيّة على المساجين.
إدراج ثيمة الزهور في عنوان الفيلم، بوصفها عنوان قصيدة لغيفارا، يطرح سؤالا عن إمكان وجود قصيدة له بهذا العنوان، وعن رمزية الزهرة. بهشاشتها وجمالها قد تحيل إلى المرأة نفسها، وإلى شِعار “للجميع خبز وزهور”.
وخير دليل على ترسّخ النمطيّة والمحدوديّة في المجتمع التقليدي إدراج حديث الكولونيل مع العجوز في مشهد لا تظهر فيه، داخل كوخها، بل يبرز المتحدّث بصوته الهادئ موضّحا أهمية التاريخ الذي يشبه المسكن فلا ينبغي هدمه بالأكاذيب، لكن في المشهد الأخير تصوّر العجوز عائدة إلى المدرسة بإناء الحساء ومزهريّتها لتواصل سرد حكايتها حالما انتهى الاحتفال.